فصل
وتحتاج أن تعرف العسكرين ؛ وذلك أن العسكر الظاهر هو الشهوة والغضب ومنازلهم في اليدين والرجلين والعينين والأذنين وجميع الأعضاء ؛ وأما العسكر الباطن فمنازله في الدماغ وهو قوى الخيال والتفكر والحفظ والتذكر والوهم ، ولكل قوة من هذه القوى عمل خاص ، فإن ضعف واحد منهم ضعف حال ابن آدم في الدارين. وجملة هذين العسكرين في القلب وهو أميرهما ، فإن أمر اللسان أن يذكر ذكر ، وإن أمر اليد أن تبطش بطشت ، وإن أمر الرجل أن تسعى سعت ، وكذلك الحواس الخمس حتى يحفظ نفسه كيما يدخر الزاد للدار الآخرة ويحصل الصيد وتتم التجارة ويجمع بذر السعادة ، وهؤلاء طائعون للقلب كما أن الملائكة طائعون للرب سبحانه وتعالى لا يخالفون أمره.
فصل في معرفة القلب وعسكره
اعلم أنه قيل في المثل المشهور : إن النفس كالمدينة ، واليدين والقدمين وجميع الأعضاء ضياعها ، والقوة الشهوانية واليها ، والقوة الغضبية شحنتها ، والقلب ملكها ، والعقل وزيرها. والملك يدبرهم حتى تستقر مملكته وأحواله ، لأن الوالي وهو الشهوة ، كذاب فضولي مخلط ، والشحنة وهو الغضب شرير قتال خراب ، فإن تركهم الملك على ما هم عليه هلكت المدينة وخربت. فيجب أن يشاور الملك الوزير ويجعل الوالي والشحنة تحت يد الوزير ، فإذا فعل ذلك استقرت أحوال المملكة وتعمرت المدينة. وكذلك القلب يشاور العقل ويجعل الشهوة والغضب تحت حكمه حتى تستقر أحوال النفس ويصل إلى سبب السعادة من معرفة الحضرة الإلهية ، ولو جعل العقل تحت يد الغضب والشهوة هلكت نفسه وكان قلبه شقيّا في الآخرة.
فصل
اعلم أن الشهوة والغضب خادمان للنفس جاذبان ، يحفظان أمر الطعام والشراب والنكاح لحمل الحواس. ثم النفس خادم الحواس شبكة العقل وجواسيسه يبصر بها صنائع البارئ جلت قدرته ، ثم الحواس خادم العقل وهو القلب سراج وشمعة يبصر بنوره الحضرة الإلهية ، لأن الجنة وهي نصيب الجوف أو الفرج محتقرة في جنب تلك الجنة. ثم العقل خادم القلب ، والقلب مخلوق لنظر جمال الحضرة الإلهية. فمن اجتهد في هذه الصنعة فهو عبد حق من غلمان الحضرة ، كما قال سبحانه وتعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] معناه أنا خلقنا القلب وأعطيناه الملك والعسكر ، وجعلنا النفس مركبه حتى يسافر عليه من عالم التراب إلى أعلى عليين ، فإذا أراد أن يؤدي حق هذه النعمة جلس مثل السلطان في صدر مملكته ، وجعل الحضرة الإلهية قبلته ومقصده ، وجعل الآخرة وطنه وقراره ، والنفس مركبه ، والدنيا منزله ، واليدين والقدمين خدامه ، والعقل وزيره ، والشهوة عامله ، والغضب شحنته ،