وتلك القطعة اللحمية مركبة ، وكل أعضاء الجسد عساكره وهو الملك ، ومعرفة الله ومشاهدة جمال الحضرة صفاته ، والتكليف عليه والخطاب معه ، وله الثواب وعليه العقاب ، والسعادة والشقاء تلحقانه والروح الحيواني في كل شيء تبعه ومعه. ومعرفة حقيقته ومعرفة صفاته مفتاح معرفة الله سبحانه وتعالى ، فعليك بالمجاهدة حتى تعرفه لأنه جوهر عزيز من جنس جوهر الملائكة ، وأصل معدنه من الحضرة الإلهية ، من ذلك المكان جاء وإلى ذلك المكان يعود.
فصل
أما سؤالك ما حقيقة القلب ، فلم يجيء في الشريعة أكثر من قول الله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] لأن الروح جزء من جملة القدرة الإلهية وهو من عالم الأمر ، قال الله عزوجل : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] فالإنسان من عالم الخلق من جانب ، ومن عالم الأمر من جانب ، فكل شيء يجوز عليه للمساحة والمقدار والكيفية فهو من عالم الخلق ؛ وليس للقلب مساحة ولا مقدار ، ولهذا لا يقبل القسمة ، ولو قبل القسمة لكان من عالم الخلق ، وكان من جانب الجهل جاهلا ومن جانب العلم عالما ، وكل شيء يكون فيه علم وجهل فهو محال. وفي معنى آخر هو من عالم الأمر ؛ لأن عالم الأمر عبارة عن شيء من الأشياء لا يكون للسماحة والتقدير طريق إليه. وقد ظن بعضهم أن الروح قديم فغلطوا. وقال قوم إنه عرض فغلطوا ، لأن العرض لا يقوم بنفسه ويكون تابعا لغيره. فالروح هو أصل ابن آدم ، وقالب ابن آدم نبع له ، فكيف يكون عرضا! وقال قوم إنه جسم فغلطوا ، لأن الجسم يقبل القسمة. فالروح الذي سميناه قلبا وهو محل معرفة الله تعالى ليس بجسم ولا عرض بل هو من جنس الملائكة.
ومعرفة الروح صعبة جدّا ، لأنه لم يرد في الدين طريق إلى معرفته لأنه لا حاجة في الدين إلى معرفته ، لأن الدين هو المجاهدة والمعرفة علامة الهداية كما قال سبحانه وتعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] ومن لم يجتهد حق اجتهاده لم يجز أن يتحدث معه في معرفة حقيقة الروح. وأول أس المجاهدة أن تعرف عسكر القلب ، لأن الإنسان إذا لم يعرف العسكر لم يصح له الجهاد.
فصل
اعلم أن النفس مركب القلب ، وللقلب عساكر كما قال سبحانه وتعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : ٣١] والقلب مخلوق لعمل الآخرة طلبا لسعادته ، وسعادته معرفة ربه عزوجل ، ومعرفة ربه تعالى تحصل له من صنع الله وهو من جملة عالمه. ولا تحصل له معرفة عجائب العالم إلا من طريق الحواس ، والحواس من القلب والقالب مركبه ، ثم معرفة صيده ومعرفة شبكته ، والقالب لا يقوم إلا بالطعام والشراب والحرارة والرطوبة ، وهو ضعيف على خطر من الجوع والعطش في الباطن ، وعلى خطر من الماء والنار في الظاهر ، وهو مقابل أعداء كثيرة.