فصل في معرفة النفس
اعلم أن مفتاح معرفة الله تعالى هو معرفة النفس كما قال سبحانه وتعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت : ٥٣] وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» وليس شيء أقرب إليك من نفسك ، فإذا لم تعرف نفسك فكيف تعرف ربك؟
فإن قلت إني أعرف نفسي ، فإنما تعرف الجسم الظاهر الذي هو اليد والرجل والرأس والجثة ، ولا تعرف ما في باطنك من الأمر الذي به إذا غضبت طلبت الخصومة ، وإذا اشتهيت طلبت النكاح ، وإذا جعت طلبت الأكل ، وإذا عطشت طلبت الشرب ؛ والدواب تشاركك في هذه الأمور ، فالواجب عليك أن تعرف نفسك بالحقيقة حتى تدري أي شيء أنت ، ومن أين جئت إلى هذا المكان ، ولأي شيء خلقت ، وبأي شيء سعادتك ، وبأي شيء شقاؤك.
وقد جمعت في باطنك صفات ، منها صفات البهائم ، ومنها صفات السباع ، ومنها صفات الملائكة ؛ فالروح حقيقة جوهرك وغيرها غريب منك وعارية عندك ، فالواجب عليك أن تعرف هذا ، وتعرف أن لكل واحد من هؤلاء غذاء وسعادة ؛ فإن سعادة البهائم في الأكل والشرب والنوم والنكاح ، فإن كنت منهم فاجتهد في إعمال الجوف والفرج. وسعادة السباع في الضرب والفتك ، وسعادة الشياطين في المكر والشر والحيل ، فإن كنت منهم فاشتغل باشتغالهم. وسعادة الملائكة في مشاهدة جمال الحضرة الربوبية وليس للغضب والشهوة إليهم طريق ، فإن كنت من جوهر الملائكة فاجتهد في معرفة أصلك حتى تعرف الطريق إلى الحضرة الإلهية ، وتبلغ إلى مشاهدة الجلال والجمال ، وتخلص نفسك من قيد الشهوة والغضب ، وتعلم أن هذه الصفات لأي شيء ركبت فيك ، فما خلقها الله تعالى لتكون أسيرها ولكن خلقها حتى تكون أسراك ، وتسخرها للسفر الذي قدامك ، وتجعل إحداها مركبك والأخرى سلاحك حتى تصيد بها سعادتك ، فإذا بلغت غرضك فقاوم بها تحت قدميك ، وارجع إلى مكان سعادتك ، وذلك المكان قرار خواص الحضرة الإلهية ، وقرار العوام درجات الجنة ، فتحتاج إلى معرفة هذه المعاني حتى تعرف من نفسك شيئا قليلا ، فكل من لم يعرف هذه المعاني فنصيبه من القشور ، لأن الحق يكون عنه محجوبا.
فصل
إذا شئت أن تعرف نفسك فاعلم أنك من شيئين : الأول هذا القلب ، والثاني يسمى النفس والروح. والنفس هو القلب الذي تعرفه بعين الباطن. وحقيقتك الباطن ؛ لأن الجسد أول وهو الآخر والنفس آخر وهو الأول ؛ ويسمى قلبا ، وليس القلب هذه القطعة اللحمية التي في الصدر من الجانب الأيسر ، لأنه يكون في الدواب والموتى ، وكل شيء تبصره بعين الظاهر فهو من هذا العالم الذي يسمى عالم الشهادة ، وأما حقيقة القلب فليس من هذا العالم ، لكنه من عالم الغيب فهو في هذا العالم غريب ،