يبصر في اليقظة شيء من عالم الغيب ، وما يبصر بين النوم واليقظة أولى بالمعرفة مما يبصر من طريق الحواس.
فصل
وتحتاج أن تعرف في ضمن ذلك أن القلب مثل المرآة ، واللوح المحفوظ مثل المرآة ايضا ؛ لأن فيه صورة كل موجود ؛ وإذا قابلت المرآة بمرآة أخرى حلت صور ما في إحداهما في الأخرى ، وكذلك تظهر صور ما في اللوح المحفوظ إلى القلب إذا كان فارغا من شهوات الدنيا ، فإن كان مشغولا بها كان عالم الملكوت محجوبا عنه ، وإن كان في حال النوم فارغا من علائق الحواس طالع جواهر عالم الملكوت فظهر فيه بعض الصور التي في اللوح المحفوظ ، وإذا أغلق باب الحواس كان بعده الخيال ، لذلك يكون الذي يبصره تحت ستر القشر ، وليس كالحق الصريح مكشوفا. فإذا مات ، أي القلب ، بموت صاحبه لم يبق خيال ولا حواس ، وفي ذلك الوقت يبصر بغير وهم وغير خيال ، ويقال له : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق : ٢٢].
فصل
واعلم أنه ما من أحد إلا ويدخل في قلبه الخاطر المستقيم وبيان الحق على سبيل الإلهام ، وذلك لا يدخل من طريق الحواس بل يدخل في القلب لا يعرف من أين جاء ؛ لأن القلب من عالم الملكوت ، والحواس مخلوقة لهذا العالم ، عالم الملك ، فلذلك يكون حجابه عن مطالعة ذلك العالم إذا لم يكن فارغا من شغل الحواس.
فصل
ولا تظنن أن هذه اللطافة تنفتح بالنوم والموت فقط ، بل تنفتح باليقظة لمن أخلص الجهاد والرياضة ، وتخلص من يد الشهوة والغضب والأخلاق القبيحة والأعمال الرديئة. فإذا جلس في مكان خال وعطل طريق الحواس ، وفتح عين الباطن وسمعه ، وجعل القلب في مناسبة عالم الملكوت ، وقال دائما : «الله الله الله» بقلبه دون لسانه ، إلى أن يصير لا خبر معه من نفسه ولا من العالم ، ويبقى لا يرى شيئا إلا الله سبحانه وتعالى ، انفتحت تلك الطاقة ، وأبصر في اليقظة الذي يبصره في النوم ، فتظهر له أرواح الملائكة والأنبياء ، والصور الحسنة الجميلة الجليلة ، وانكشفت له ملكوت السماوات والأرض ، ورأى ما لا يمكن شرحه ولا وصفه كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم : " زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها" وقال الله عزوجل : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأنعام : ٧٥] لأن علوم الأنبياء عليهمالسلام كلها كانت من هذا الطريق لا من طريق الحواس كما قال الله سبحانه وتعالى : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل : ٨] معناه الانقطاع عن كل شيء ، وتطهير القلب من كل شيء ، والابتهال إليه سبحانه وتعالى بالكلية ؛ وهو طريق الصوفية في هذا الزمان. وأما طريق التعليم فهو طريق العلماء ، وهذه الدرجة الكبيرة مختصرة من طريق النبوة ، وكذلك علم الأولياء لأنه وقع في قلوبهم بلا واسطة من حضرة الحق كما قال سبحانه وتعالى :