وحكى لي من أثق به أن المنصور أغرى بقتل العلويين حتى نفر أكثرهم إلى اليمن ، فلما وصلت النوبة إلى المأمون وكان يتولى محبة أهل البيت ، فسأل عمن بقي من الأشراف الفاطميين ، فأخبروه عن قوم منهم بأرض اليمن ، فنفذ إليهم ليستعطفهم ، فأجمعوا رأيهم على أن كل واحد منهم يبعث شخصا يشبه به من وكيله أو غلامه ، فإن كان خيرا فما يضره ، وإن كانت الأخرى فلهم الأسوة بالسادات ، فلما وصلوا إلى المأمون أكرمهم وأعطاهم وتزوجوا وتوطنوا. فإذا وجدت شريفا مفتخرا غير ذاك ولا زكيّ فهو منهم ، إذ هذا البيت المعظم لا انبساط للفحشاء على منازلهم ، وهو معنى قوله : " نحن أهل البيت لا نفجر ولا يفجر بنا". والله أعلم.
فصل وهو المقالة الثالثة عشرة
في حيل اليمين
اعقد على نفسك عقد الدور لابن سريج ، وقد كنت لا أقول به ، ثم رأيت الخمر المغلي بالثوم له منفعة لأرباب القولنج البارد ، وجماعة من أصحابنا يقولون به ، وكل مسألة خلاف إذا حكم الحاكم بصحتها زال خلافها. ويشترط في نسخة اليمين معاني تؤول منهم إلى الفسخ بالتأويل ، واليمين على نية المستحلف. واحترز في عقد الوكيل وأعم الألفاظ : كلما وقع عليك طلاقي وطلاق وكيلي فأنت طالق ثلاثا. ولا تمنع أيها الملك قول الحكماء والفتوى بها ، وإذا اخترتها فليكن باطنا ، وخطوط الشهود والحكام عندك ، وإن ادعى نفيه فسلم إليه ولا تسلم إلى العامي عنانه ، فهو جهول باليمين والعنان. واحذر اليمين بكل ما يتعلق بالله وبكلماته وصفاته ، واختلف العلماء فيما له حرمة غير هذا ، وأما اليمين الغموس فإنها تذر الديار بلاقع ، وذلك أن يحلف على ما يعلم كذبه. واقعد أيها الملك قعود المتأدبين ، وكن قليل الكلام ، إذ لا يصلح الكلام الكثير للملك ولا للزاهد ، وقد يحصل إظهار الفوائد للعلماء بالكلام. ولا تخطئ المفتين ، ولكن قابل بعضهم ببعض ، وقد سمعت ما قال عليه الصلاة والسلام : " استفت نفسك وإن أفتوك ، فالحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما أمور متشابهات ، فذر ما يريبك إلى ما لا يريبك" وقال عليه الصلاة والسلام : " من جعل الحلال له قوتا أجيبت دعوته ، وعلمت مروءته ، وحسنت سريرته ، وعلت كلمته ، وحصلت أمنيته ، وطابت هيئته ، وطهرت ذريته ، وتنورت نطفته ، وذرفت دمعته ، وظهرت حكمته ، وقل غضبه ، ورق قلبه ، وخف ذنبه. يا علي رد درهم مظلمة أفضل عند الله من أربعة آلاف حجة مقبولة ، يا علي من غضب غضب الله عليه ، ومن ظلم ظلم ، ومن أكثر من الصدقة نصر في ذريته". في الحرام هو أن معاد النفوس واحد ، ومرجعها إليه بعد القبض ، فإذا ظلم بعضها سرى الظلم في كلها ، وهو معنى قوله تعالى : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها