في البخور هو علو الهمة ، وتزكية النفس ، وتقليل المأكل ، والانقطاع في الخلوة ، ودوام الذكر ، ينخرق لك من رؤية الغيب من علم الباطن أنوار المكاشفة ، فتصير الأملاك والأفلاك حديثا يغلب لاهوتك على ناسوتك ، فتصير زيتا لمصباح مشكاة الأنوار الإلهية كما قيل (شعر) :
ثقلت زجاجات أتتنا فرغا |
|
حتّى إذا ملئت بصرف الرّاح |
خفّت فكادت أن تطير بما حوت |
|
وكذا الجسوم تخفّ بالأرواح |
وإذا حصل لك خمير السعادة من العلة الأولى التي هي مبدأ كل علة بطريق المجاهدة في تحصيلها ، أفرغت عليك أنوار المحبة ، فصار الخلق لك طائعين بلا سيف يسيف بينهم ، ثم يبسط باع فيهم كما كتب بعض الملوك على درع له (شعر) :
علي درع تلين المرهفات له |
|
من الشّجاعة لا من نسج داود |
وإنّني فيه أمر الله صيّرني |
|
نارا من البأس في بحر من الجود |
فإن انسد عليك باب المجاهدة وغلقت ، ورأيت باب الطلب مسدودا فلا ترض بالمناقصة ، بل تميل إلى الزهد فإن الناس رجلان ناسك ومالك ، كما تمثل عمر رضي الله عنه ببيت الفرزدق استشهادا به ثم أنشد (شعر) :
إمّا ذبابا فلا تعبأ بمنقصة |
|
أو قمّة الرأس واحذر أن تقع وسطا |
ومثلها قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه (شعر) :
إذا ما لم تكن مطاعا |
|
كما ترضى فكن عبدا مطيعا |
فإن لم تملك الدّنيا جميعا |
|
كما تختار فاتركها جميعا |
هما شيئان من نسك وملك |
|
ينيلان الفتى شرفا رفيعا |
إذا المرء عاش بكلّ شيء |
|
سوى هذين عاش به وضيعا |
وكتب معاوية إلى ابنه يزيد : إن فاتك يا بني الملك فلا يفوتنك المحراب وبهذا الطريق نال الناس مطالبهم حتى رأينا الملوك متقاطرين على باب الزهاد ، ولهذا قال القشيري :
إذا ما الفقير لباب الأمير |
|
فبئس الأمير وبئس الفقير |
وأمّا الأمير بباب الفقير |
|
فنعم الأمير ونعم الفقير |
واعلم أنه إذا حصلت القلوب بمعرفة صمديتها ، وانكشف لها نور الجلال بالبراهين الباطنة ، وحصلت التخلية والتصفية ، كوشف بالعالم العلوي والأخروي وعلم سر معانيها ، فهو الذي كوشف بمعرفة الكيمياء الأكبر ، فتصير الملائكة له خداما ، فيشاهد أساور الجنة وأسرها كما قال رسول اللهصلىاللهعليهوسلم : " كيف أصبحت يا حارث؟ قال : أصبحت بالله مؤمنا حقّا ، فقال عليهالسلام : إنّ لكلّ حقّ حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال : أعرضت نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها ، وكأني بأهل الجنة في الجنة يتزاورون ، وبأهل النار في النار يتعاورون ، وكأني