شغل الكلب برغيفه فتشاغل الكلب بالرغيف ، ودخل الرجل إلى الملك ، وإن كانت همته في بطنه أكل رغيفه فصده الكلب عن دخول الملك ، ثم يتعفن الرغيف في بطنه ، فبعد ساعة رماه. فدنياك هو الرغيف ، والكلب هو الشيطان يصادك عن دخول الملك ، فارم الرغيف إلى الكلب تستريح. واكتسب من جواهر الأعمال تشرف بها عند عرض البضائع ، ونيل المدخر الباقي في دار زفاف الحور وفتح أبواب القصور ، فأنت مثالك كجماعة سافرت إلى وادي الظلمات فقال لهم الخبير بالمكان : احملوا من حصاها تظفروا! فصاحب حسن الظن حمل فأوقر ، والمتشكك بطل فتحقر ، فلما خرجوا من ضياء الشمس إلى الوادي وشاهدوا بضائعهم ، فإذا هي درّ ويواقيت ، فندم البطال وفاز الحمال. فهذه صورة أعمالك في دنياك ، فإما أن تنادم فتصير غلاما ، وإما أن تعمل فتحظى من الله تحية وسلاما. فدع كبرك ، وقلل شبعك ، ونظف بطنك ، ومن النوم عينك ، عساك أن تقطع شينك ، وتوفي دينك ، فأنت الذي تنتنك العرقة ، وتوهنك البقة ، وتقتلك الشرقة ، وملابسك من قزة ، وحلاوتك من نحلة ، وخبزك من طينة ، وأنت غدا مستور باللبنة تؤاخذ بنعيمك ، أما سمعت النبي حاسبه الله على شبعه مرة واحدة من خبز شعير وتمر وقال له (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ).
فصل في علو الهمم ونيلها لمقاصدها
اعلم أن الهمة هي إجماع قلب المهتم وجمعه لنيل مقصده بالتوجه إليه دون غيره ، من غير قلب قاصده لسواه. وصاحب الهمة لا يكون همه في مقصده لنيل أغراض متفرقة ، كمن أراد أعمالا لا يقع في يده غير عمل واحد. الهمم هي فروع من فروع النفس على قدر وضع النفس وارتفاعها. إن همة كل أحد على قدر نفسه في علوها وطهارتها ، ألا ترى إلى أصحاب الصنائع الخسيسة كالكناس والزبال والإسكاف والدباغ والغسال ، فهؤلاء هممهم على قدر خسائس أنفسهم النازلة ، لسابق ما قدر لهم عند اعتصار خمير السعادة من عجين الطالع في خمير الولادة ، وهذا حال يتعلل به العاجز ، إذ الملك معشوقك فلا تألف الخسائس ؛ فليس هذا أنسابا معروفة بأب وأم ، وإنما هي بعلو الهمة كما كانت من أول الفيض الصادر عن النفس الكلية همم العلماء والملوك ، ثم كلما تباعد الفيض عن النفس الكلية رذلت الهمم كما رذل الحيوان بعد فيض الإنسان ، ألا ترى إلى همة الفيل والحمار في المأكل والمشرب؟ فهذا همه بريح ، وهذا تبن وشعير ، وانظر إلى همة ذي القرنين وهو ابن هيلانة وأبوه نساج كيف تعرض بعلو الهمة إلى الملك ولم ينزل إلى الصنائع ، فمثله في العالم كثير. ومن جملة علو همته إظهار اليغزن الذي أشاع بذكره المسافرون ، واتخذ المتقدمون ألحان الموسيقى التي زعموا أنها معتصرة من دورات ألحان الأفلاك حين تدور ، ويسمع له نغمات بطرائق وأوزان غير خارجة نقلوها عن موسى وإدريس. وطائفة أخرى زعمت أن العود متخذ من شكل طائر معلق في جبل ، في أنفه أنقاب مخارج العود. وهذا من جملة فروع الهمم ، فنيل المقاصد من غير همة غم عمن تعلق بها ، فاكتساب الهمم ونيل مقاصدها للعلماء بالدرس والمواظبة والجوع والصبر.