المناجاة يلوح فيها تعريض الهلاك ، إلا أنه ذو رحمة واسعة ورب غفور ، لكن اذهبوا إلى عيسى عليهالسلام فإنه من أصح المرسلين يقينا ، وأكثرهم معرفة بالله تعالى ، وأشدهم زهدا ، وأبلغهم حكمة ، فلعله يشفع لكم! فيتشاورون فيما بينهم ألف عام والحال يزيد شدة والموقف يزداد ضيقا ، وهم يقولون : حتى متى نحن من رسول إلى رسول ومن كريم إلى كريم؟ فيأتون عيسى عليهالسلام فيقولون له : أنت روح الله وكلمته ، وأنت الذي سماه الله وجيها في الدنيا والآخرة ، اشفع لنا إلى ربك في فصل القضاء! فيقول إن قومي اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ، فكيف أشفع عند من عبدت معه وسميت له ابنا وسمي لي أبا ، ولكن أرأيتم لو كان لأحدكم كيس فيه نفقة وعليه خاتم أكان يبلغ إلى ما في الكيس حتى يفض الخاتم؟ قالوا : نعم يا نبي الله ، قال لهم : اذهبوا إلى سيد المرسلين وخاتم النبيين أخي العرب ، فإنه ادخر دعوته شفاعة لأمته ، وكثيرا ما آذاه قومه : شجوا جبينه ، وكسروا رباعيته ، وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ، وإنه لأحسنهم فخارا ، وأكبرهم شرفا ، وهو يقول كما قال الصديق لإخوته (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف : ٩٢]. وجعل يتلو عليهم من فضائله صلىاللهعليهوسلم ما لم تمجه آذانهم حتى امتلأت نفوسهم حرصا على الذهاب إليه ، فساروا حتى أتوا إلى منبره صلىاللهعليهوسلم وقالوا له : أنت حبيب الله والحبيب أوجه الوسائط ، اشفع لنا إلى ربك! فقد ذهبنا إلى أبينا آدم فأحالنا على نوح ، فذهبنا إلى نوح فأحالنا على إبراهيم ، وذهبنا إلى إبراهيم فأحالنا على موسى ، فذهبنا إلى موسى فأحالنا على عيسى ، فذهبنا إلى عيسى فأحالنا عليك صلّى الله عليك وسلم ، وليس بعدك مطلب ولا عنك مهرب ، فيقول صلىاللهعليهوسلم : أنا لها حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى. ثم ينطلق صلىاللهعليهوسلم إلى سرادقات الجلال فيستأذن فيؤذن له ، ثم يرفع الحجاب ويلج إلى العرش ويخر ساجدا يمكث فيها ألفا ، ثم يحمد الله تعالى بمحامد ما حمده بها أحد قط. قال بعض العارفين : إن تلك المحامد التي أثنى الله بها على نفسه يوم فراغه من خلقه. فيتحرك العرش تعظيما وقد حاز صحيفة من الصحف التي تقدم ذكرها في" الإحياء" والناس في تلك المدة قد ضاق مكانهم ، وساءت أحوالهم ، وترادفت أهوالهم ، وقد طوق كل واحد منهم ما بخل به في الدنيا : فمانع زكاة الإبل يحمل بعيرا على كاهله له رغاء وثقل يعدل الجبل العظيم ، ومانع زكاة البقر يحمل ثورا على كاهله له خوار وثقل يعدل الجبل العظيم. والرغاء والخوار كالرعد القاصف. ومانع زكاة الزرع يحمل على كاهله أعدالا قد ملئت من الجنس الذي كان يبخل به ، برّا كان أو شعيرا ، أثقل ما يكون ، ينادي تحته بالويل والثبور ، ومانع زكاة المال يحمل شجاعا أقرع له زبيبتان ، وذنبه قد صب في منخره ، واستدار بجيده ، وثقل على كاهله ، حتى كأنه طوق به كل رحى في الأرض. وكل واحد ينادي ما هذا فتقول لهم الملائكة : هذا ما بخلتم به رغبة فيه وشحا عليه ، وهو قوله تعالى (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [آل عمران : ١٨٠]. وآخرون قد عظمت فروجهم وهي تسيل صديدا تتأذى بنتنهم