السم ، فليس له أن يشح بالترياق على المحتاج إليه. وكذلك الصراف الناقد البصير ، إذا أدخل يده في كيس القلاب ، وأخرج منه الإبريز الخالص ، واطّرح الزيف والبهرج فليس له أن يشح بالجيد المرضي على من يحتاج إليه ، كذلك العالم. وكما أن المحتاج إلى الترياق ، إذا اشمأزت نفسه منه ، حيث علم أنه مستخرج من الحية التي هي مركز السم ، وجب تعريفه ؛ والفقير المضطر إلى المال إذا نفر عن قبول الذهب المستخرج من كيس القلاب ، وجب تنبيهه على أن نفرته جهل محض ، وهو سبب حرمانه عن الفائدة التي هي مطلبه ، وتحتم تعريفه أن قرب الجوار بين الزيف والجيد لا يجعل الجيد زيفا كما لا يجعل الزيف جيدا ؛ فكذلك قرب الجوار بين الحق والباطل لا يجعل الحق باطلا ، كما لا يجعل الباطل حقّا.
فهذا مقدار ما أردنا ذكره من آفة الفلسفة وغائلتها.
٣ ـ القول في مذهب التعليم وغائلته
ثم إني فرغت من علم الفلسفة وتحصيله وتفهيمه وتزييف ما يزيف منه ، علمت أن ذلك أيضا غير واف بكمال الغرض ، وأن العقل ليس مستقلا بالإحاطة بجميع المطالب ، ولا كاشفا للغطاء عن جميع المعضلات. وكان قد نبغت نابغة التعليمية ، وشاع بين الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق ، عنّ لي أن أبحث عن مقالاتهم لأطلع على ما في كتبهم. ثم اتفق أن ورد علي أمر جازم من حضرة الخلافة ، بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة مذهبهم ، فلم يسعني مدافعته ، وصار ذلك مستحثا من خارج ، ضميمة للباعث الأصلي من الباطن ، فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتهم. وكان قد بلغني بعض كلماتهم المستحدثة التي ولدتها خواطر أهل العصر لا على المنهاج المعهود من سلفهم ، فجمعت تلك الكلمات ، ورتبتها ترتيبا محكما مقارنا للتحقيق ، واستوفيت الجواب عنها ، حتى أنكر بعض أهل الحق مني مبالغتي في تقرير حجتهم ، وقال : «هذا سعي لهم ، فإنهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات لو لا تحقيقك لها وترتيبك إياها» وهذا الإنكار من وجه حق ، فلقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي رحمهماالله تصنيفه في الرد على المعتزلة ، فقال الحارث : " الرد على البدعة فرض" فقال أحمد" نعم ، ولكن حكيت شبهتهم أولا ثم أجبت عنها ، فبم تأمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه ولا يلتفت إلى الجواب ، أو ينظر إلى الجواب ، ولا يفهم كنهه؟».
وما ذكره أحمد حق ، ولكن في شبهة لم تنشر ولم تشتهر ، فأما إذا انتشرت ، فالجواب عنها واجب ولا يمكن الجواب عنها إلا بعد الحكاية. نعم ، ينبغي ألا يتكلف إيرادها ، ولم أتكلف أنا ذلك ، بل كنت قد سمعت تلك الشبهة من واحد من أصحابي المختلفين إليّ ، بعد أن كان قد التحق بهم ، وانتحل مذهبهم ، وحكى أنهم يضحكون على تصانيف المصنفين في الرد