حالة واحدة مقدور لله تعالى.
والفرقة الثانية : تباعدوا عن هؤلاء إلى الطرف الأقصى المقابل لهم ، وجردوا النظر إلى المعقول ، ولم يكترثوا بالنقل ، فإن سمعوا في الشرع ما يوافقهم قبلوه ، وإن سمعوا ما يخالف عقولهم زعموا أن ذلك صوره الأنبياء ، وأنه يجب عليهم النزول إلى حد العوام ، وربما يحتاج أن يذكر الشيء على خلاف ما هو عليه. فكل ما لم يوافق عقولهم حملوه على هذا المحمل. فهؤلاء غلوا في المعقول حتى كفروا ، إذ نسبوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلى الكذب لأجل المصلحة.
ولا خلاف بين الأمة أن من جوز ذلك على الأنبياء صلوات الله عليهم يجب حزّ رقبته. وأما الأولون فإنهم قصروا طلبا للسلامة من خطر التأويل والبحث ، فنزلوا بساحة الجهل ، واطمأنوا بها. إلا أن حال هؤلاء أقرب من حال أولئك ، فإن تخلص هؤلاء عن المضايق بقولهم : إن الله على كل شيء قدير ، ونحن لا نقف على كنه عجائب أمر الله ؛ ومخلص أولئك بأن قالوا : إن النبي إنما ذكر ما ذكره على خلاف ما علمه للمصلحة. ولا يخفى ما بين المخلصين من الفرق في الخطر والسلامة.
والفرقة الثالثة : جعلوا المعقول أصلا ، فطال بحثهم عنه وضعف عنايتهم بالمنقول ، فلم تجتمع عندهم الظواهر المتعارضة المتصادمة في بادئ الرأي ، وأول الفكر المخالفة للمعقول ، فلم يقعوا في غمرة الإشكال ؛ لكن ما سمعوه من الظواهر المخالفة للمعقول جحدوه وأنكروه وكذبوا راويه ، إلا ما يتواتر عندهم كالقرآن ، أو ما قرب تأويله من ألفاظ الحديث ؛ وما شق عليهم تأويله جحدوه حذرا من الإبعاد في التأويل ، فرأوا التوقف عن القبول أولى من الإبعاد في التأويل. ولا يخفى ما في هذا الرأي من الخطر في رد الأحاديث الصحيحة المنقولة عن الثقات الذين بهم وصل الشرع إلينا.
والفرقة الرابعة : جعلوا النقول أصلا ، وطالت ممارستهم له فاجتمع عندهم الظواهر الكثيرة ، وتطرفوا من المعقول ولم يغوصوا فيه ، فظهر لهم التصادم بين المنقول والظواهر في بعض أطراف المعقولات. ولكن لما لم يكثر خوضهم في المعقول ، ولم يغوصوا فيه ، لم يتبين عندهم المحالات العقلية ؛ لأن المحالات بعضها يدرك بدقيق النظر وطويله الذي ينبني على مقدمات كثيرة متوالية ، ثم انضاف إليه أمر آخر وهو : أن كل ما لم يعم استحالته حكموا بإمكانه. ولم يعلموا الأقسام ثلاثة : قسم على استحالته بالدليل ، وقسم علم إمكانه بالدليل ، وقسم لم يعلم استحالته ولا إمكانه. وهذا القسم الثالث جرت عادتهم بالحكم بإمكانه ؛ إذ لم يظهر لهم استحالته ؛ وهذا خطأ ، كمن يحكم باستحالته إذا لم يظهر إمكانه ؛ بل من الأقسام ما لم يعلم إمكانه ولا استحالته ، إما لأنه موقف العقل وليس في القوة البشرية الإحاطة به ، وإما لقصور هذا الناظر خاصة وعدم عثوره على دليله بنفسه وفقده لمن ينبهه عليه.