ومثال الأول من حس البصر : قصور الحس البصري عن أن يعرف عدد الكواكب أنه زوج أو فرد ، وأن يدرك عظم الكواكب مع بعدها على ما هي عليه.
ومثال الثاني ، وهو القصور الخاص : قصور حس بعض الناس عن أن يدرك منازل القمر ، وظهور أربع عشرة منها في كل حال ، وخفاء أربع عشرة مقابل درج المنازل في الغروب والشروق ، وغير ذلك مما وقف عليه بعض الناس بحس البصر دون بعض. كذلك يتطرق إلى إدراك العقل مثل هذا النوع من التفاوت.
وهؤلاء لما قل خوضهم في المعقولات لم يكثر عندهم المحالات ، فكفوا مؤونة عظيمة في أكثر التأويلات ، إذ لم ينتبهوا للحاجة إلى التأويل كالذي لم يظهر له أن كون الله بجهة محال ، إذ استغنى عن تأويل الفوق والاستواء وكل ما يشير إلى الجهة.
والفرقة الخامسة : هي الفرقة المتوسطة الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول ، الجاعلة كل واحد منهما أصلا مهما ، المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقّا ؛ ومن كذب العقل فقد كذب الشرع ، إذ بالعقل عرف صدق الشرع ؛ ولو لا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي ، والصادق والكاذب ؛ وكيف يكذب العقل بالشرع ، وما ثبت الشرع إلا بالعقل.
وهؤلاء هم الفرقة المحقة. وقد نهجوا منهجا قويما ؛ إلا أنهم ارتقوا مرتقى صعبا ، وطلبوا مطلبا عظيما ، وسلكوا سبيلا شاقا ؛ فلقد تشوفوا إلى مطمع ما أعصاه ، وانتهجوا مسلكا ما أوعره. ولعمري إن ذلك سهل يسير في بعض الأمور ، ولكن شاق عسير في الأكثر.
نعم ، من طالت ممارسته للعلوم ، وكثر خوضه فيها ، يقدر على التلفيق بين المعقول والمنقول في الأكثر بتأويلات قريبة ، ويبقى لا محالة عليه موضعان : موضع يضطر فيه إلى تأويلات بعيدة تكاد تنبو الأفهام عنها ، وموضع آخر لا يتبين له فيه وجه التأويل أصلا ، فيكون ذلك مشكلا عليه من جنس الحروف المذكورة في أول السور إذا لم يصح فيها معنى بالنقل. ومن ظن أنه سلم عن هذين الأمرين فهو إما لقصوره في المعقول وتباعده عن معرفة المحالات النظرية ، فيرى ما لا يعرف استحالته ممكنا ؛ وإما لقصوره عن مطالعة الأخبار ليجتمع له من مفرداتها ما يكثر مباينتها للمعقول. فالذي أوصيه به ثلاثة أمور :
أحدها : أن لا يطمع في الاطلاع على جميع ذلك ؛ وإلى هذا الغرض كنت أسوق الكلام ، فإن ذلك في غير مطمع ، وليتل قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٨٥].
ولا ينبغي أن يستعبد استتار بعض هذه الأمور على أكابر العلماء فضلا عن المتوسطين. وليعلم أن العالم الذي يدعي الاطلاع على مراد النبي صلىاللهعليهوسلم في جميع ذلك فدعواه لقصور عقله لا لوفوره.
والوصية الثانية : أن لا يكذب برهان العقل أصلا ، فإن العقل لا يكذب ، ولو كذب العقل فلعله كذب في إثبات الشرع ، إذ به عرفنا الشرع. فكيف يعرف صدق الشاهد بتزكية المزكي