وذلك حسب ما تنبهت له عقولنا فيما أشرنا إليه ، مع أنه لو اجتمع جميع الخلائق على أن يذكروا جميع ما خلق الله سبحانه وتعالى ، وما وضع من الحكم في مخلوق واحد من مخلوقاته لعجزوا عن ذلك وما أدركته الخلائق من ذلك ما وهب الله سبحانه لكل منهم وما سبق له من ربه سبحانه والله المسئول أن ينفعنا به برحمته وجوده.
باب التفكر في خلق السماء وفي هذا العالم
قال الله تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق : ٦]. وقال سبحانه وتعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ) [الطلاق : ١٢].
اعلم رحمك الله إذا تأملت هذا العالم بفكرك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبسط ، والنجوم منصوبة كالمصابيح والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكل شيء من ذلك معد مهيأ لشأنه ، والإنسان كالمالك للبيت المخول لما فيه ، فضروب النبات لمآربه ، وأصناف الحيوانات مصروفة في مصالحه ، فخلق سبحانه السماء وجعل سبحانه لونها أشد الألوان موافقة للأبصار وتقوية لها ولو كانت أشعة أو أنوارا لأضرت الناظر إليها. فإن النظر إلى الخضرة والزرقة موافق للأبصار ، وتجد النفوس عند رؤية السماء في سعتها نعيما وراحة لا سيما إذا انفطرت نجومها وظهر نور قمرها ، والملوك تجعل في سقوف مجالسها من النقش والزينة ما يجد الناظر إليه به راحة وانشراحا ، لكن إذا داوم الناظر إليه نظره وكرره ملّه وزال عنه ما كان يجده برؤيته من البهجة والانشراح ، بخلاف النظر إلى السماء وزينتها فإن الناظر إليها من الملوك فمن دونهم إذا ضجروا من الأسباب المضجرة لهم يلجئون إلى ما يشرحهم من النظر إلى السماء وسعة الفضاء ، وقد قالت الحكماء : يحذوك عندك من الراحة والنعيم في دارك بمقدار ما عندك فيها من السماء ، وفيها أنها حاملة لنجومها المرصعة ولقمرها وبحركتها تسير الكواكب فتهتدي بها أهل الآفاق وفيها طرق لا تزال توجد آثارها من المغرب والمشرق ولا توجد مجردة ولا مقبلة صورة نور. وقيل : إنها أنجم صغار متكاثفة مجتمعة يهتدي بها على السير من ضل ويحثر في أي جهة كانت فيقصدها ، وقيل : إنها المشار إليها في قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) [الذاريات : ٧]. قيل : الحبك الطرق ، وقيل ذات الزينة فهي دلائل واضحة تدل على فاعلها وصنعته محكمة صمدية تدل على سعة علم بارئها وأمور ترتيبها كما تدل على إرادة منشئها فسبحان القادر العالم المريد ، وقيل : في النظر إلى السماء عشر فوائد : تنقص الهم ، وتقلل الوسواس ، وتزيل وهم الخوف ، وتذكر بالله ، وتنشر في القلب التعظيم لله ، وتزيل الفكر الرديئة ، وتنفع لمرض السوداء ، وتسلي المشتاق وتؤنس المحبين ، وهي قبلة دعاء الداعين.