باب في حكمة الشمس
قال الله سبحانه : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح : ١٦].
اعلم أن الله سبحانه خلق الشمس لأمور لا يستكمل علمها إلا الله وحده ، فالذي ظهر من حكمته فيها أن جعل حركتها لإقامة الليل والنهار في جميع أقاليم الأرض. ولو لا ذلك لبطل أمر الدين ، أو لولاه كيف كان يكون الناس يسعون في معايشهم ويتصرفون في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم ، وكيف كانوا يتهنون بالعيش مع فقدهم لذة النور ومنفعته ولو لا ضياء نورها ما انتفع بالأبصار ولم تظهر الألوان ، وتأمل غروبها وغيبتها عمن طلعت عليهم وما في ذلك من الحكمة ، ولولاه لم يكن للخلق هدوء ولا قرار مع شدة حاجتهم إلى الهدوء وراحة أبدانهم وخمود حواسهم وانبعاث القوة الهاضمة لهضم طعامهم وتفنيد الغذاء ، ثم كان الحرص لحملهم على مداومة العمل ومطاولته على ما يعظم مكانته في أبدانهم ، فإن أكثر الحيوانات لو لا دخول الليل ما هدؤوا ولا قروا من حرصهم على نيل ما ينتفعون به ، ثم كانت الأرض تحمى بدوام شروق الشمس واتصاله حتى يحترق كل ما عليها من الحيوانات والنباتات ، فهي بطلوعها في وقت غروبها في وقت في النور بمنزلة سراج لأهل بيت يستضاء به وقتا ويغيب وقتا ليهتدوا ويقروا ، وهي في حرها بمنزلة نار يطبخ بها أهل الدار حتى إذا كمل طبيخهم واستغنوا عنها أخذها من جاورهم ، وهو يحتاج إليها فينتفع حتى إذا قضى حاجته سلمها لآخرين ، فهي أبدا منصرفة في منافع أهل الأرض بتضاد النور والظلمة على تضادهما متعاونين متظافرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه ، وإلى هذه القضية الإشارة بقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [القصص : ٧١]. ثم بتقدمها وتأخرها تستقيم الفصول فيستقيم أمر النبات والحيوان ، ثم انظر إلى مسيرها في فلكها في مدة وهي تطلع كل يوم وتغرب بسير آخر سخر لها بتقدير خالقها فلو لا طلوعها وغروبها لما اختلف الليل والنهار ولما عرفت المواقيت. ولو انطبق الظلام على الدوام لكان فيه الهلاك لجميع الخلق ، فانظر كيف جعل الله الليل سكنا ولباسا والنهار معاشا ، وانظر إلى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل وإدخاله الزيادة والنقصان عليهما على الترتيب المخصوص ، وانظر إلى إمالة سير الشمس حتى اختلف بسبب ذلك الصيف والشتاء ، فإذا انخفضت من وسط السماء برد الهواء وظهر الشتاء. وإذا استوت وسط السماء اشتد القيظ ، وإذا كانت فيما بينهما اعتدل الزمان فيستقيم بذلك أمر النبات والحيوان بإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وأما ما في ذلك من المصلحة ، ففي الشتاء تعود الحرارة في الشجر والنبات فيتولد فيه مواد الثمار ويستكشف الهواء ، فينشأ منه السحاب والمطر ، وتشتد أبدان الحيوان وتقوى أفعال الطبيعة ، وفي الربيع تتحرك الطبائع في المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات بإذن الله وينور الشجر ، وتهيج أكثر الحيوانات للتناسل ، وفي الصيف يخمد الهواء فينضج الثمار وتنحل فضول الأبدان ، ويجف وجه الأرض