السعادة ضربان سعادة مطلقة وسعادة مقيدة
فأما السعادة المطلقة ، ما اتصلت في الدنيا إلى ما لا نهاية له. والمقيدة ، ما كانت مقصورة على حال أو زمان. وكل سعادة فبسبب والسبب من أنواع الحجج ، فأما السعادة المقيدة فتحصل بأربعة أسباب : أعلى الأسباب العلمية احترازا عن الحرف والصناعات وهي إما سفسطة ، وإما خطابة ، وإما جدل ، وإما شعر ، أما السفسطة فنهايتها وغرضها لا مقصودها أن تؤلف قياسا وتنظم حجة تشبه الحق ، وليست بحق بنفسها لتغلب خصمك من حيث لا يشعر ، كما أنك إذا قلت : أليس النجار صانعا ، فيقول : نعم ، فتقول : أليس هو جسما؟ فيقول : أليس البارئ سبحانه صانعا؟ فتقول : نعم ، فيقول : فهو إذا جسم. فهذا قياس مؤلف ولكنه فاسد وسفسطة ومباهتة ، ودخل من الفساد قوله : فكل صانع جسم فإنه خطأ ، وإلا فما الدليل عليه؟ فنهاية سعادة هذا التمويه على الخصم وهي منقسمة إلى التلبيس في النظم كما قدمناه ، وإلى التلبيس في شبه الحروف والأسماء ، كما إذا قلت : العين تبصر والدينار عين فالدينار يبصر فهذا غلط من جهة اشتراك الاسم وحده أن تقول حد الدينار غير حد العين فهما مختلفان في الحد والحقيقة ، وكذلك في النقط مثل قوله تعالى : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) [الأعراف : ١٥٦]. ومن أساء ، واستيعاب هذا يحتاج إلى مجلدة ، وأما الخطابة ، فغرضها إقناع للسامع بما تسكن نفسه إليه سكونا تاما من غير أن تبلغ اليقين ، وهذا كما يفعله الخطيب من الناس ، فإنه ينظم كلاما عذبا مشجعا يذكرهم الموت ويفزعهم ويخوفهم ، وغرضه الإيقاع في نفسهم. وأما الشاعر ، فغرضه الإيقاع في النفس وتحريك القوة الشهوانية والغضبية بأن يشبه الأشياء بعضها ببعض كقول القائل:
هو البحر غص فيه إذا كان راكدا |
|
على الدّرّ واحذره إذا كان مزبدا |
فهذا إذا سمعه الممدوح انبسطت له نفسه ، لأنه شبه جوده واتساعه بالبحر ، وأنه ذو صولة كالبحر ، وقد يحرك الشاعر القوة الغضبية كقول القائل :
لو كان يخفى عن الرّحمن خافية |
|
من العباد خفت عنه بنو أسد |
وكقول بعض الشعراء ينفر زوجته عن النكاح :
فلا تنكحي إن فرّق الدّهر بيننا |
|
أغمّ القفا والوجه جعد الأنامل |
حتى أن الإنسان يشبه له الشيء الحسن بالقبيح فينافره ، كما إذا قيل له وقد شرب في محجمته خرجت من كور الزجاج فيقال له بها يمص الدم للمجذوم والمبروص فينافرها ولا يشرب بها ، وكما إذا أرسل عليه حبل ثم قيل له : عليك نفر ، وقيل له : إن هذا العسل أصفر كأنه عذرة نفر من ذلك واستبشعه ، فهذا غرض الخطابة والشعر ، وأما الجدل فغايته غلبة من يخاطبه بأشياء مشهورة كما قال تعالى لليهود : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الجمعة : ٦]. فإنه علم في العادة أن المحب يحب لقاء الحبيب ،