معنى الآيات :
لما ذكر تعالى حال الذين فرقوا دينهم فذهبت كل فرقة منهم بكتاب ومذهب ولقب ونعى عليهم ذلك التفرق وأمر رسوله أن يتركهم في غمرة خلافاتهم ويدعهم إلى حين يلقون جزاءهم عاجلا أو آجلا : أثنى تبارك وتعالى على عباده المؤمنين من أهل الخشية ، فقال وقوله الحق : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي من عذابه خائفون من الوقوف بين يديه فهذه صفة لهم وآخرى (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي بحجج الله تعالى التي تضمنتها آياته يؤمنون أي يوقنون وثالثة : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) أى فى ذاته ولا صفاته ولا عباداته فيعبدونه بما شرع لهم موحدينه في ذلك ورابعة : (وَالَّذِينَ (١) يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ (٢) راجِعُونَ). أي يؤتون (٣) الزكاة وسائر الحقوق والواجبات وقلوبهم خائفة من ربهم أن يكونوا قد قصروا فيما أوجب عليهم وخائفة أن لا يقبل منهم عملهم ، وذلك ناجم لهم من قوة إيمانهم برجوعهم إلى ربهم ووقوفهم بين يديه ومساءلته لهم : لم قدمت؟ لم أخرت؟ وقوله تعالى : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ (٤) فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) في هذا بشرى لهم إذ أخبر تعالى أنهم يسارعون في الخيرات ، وأنهم سبق ذلك لهم في الأزل فهنيئا لهم. وقوله تعالى : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) فيه قبول عذر من بذل جهده في المسارعة في الخيرات ولم يلحق بغيره أعذره ربه فإنه لا خوف عليه ما دام قد بذل جهده إذ هو تعالى (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي طاقتها وما يتسع له جهده.
وقوله : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فيه وعد لأولئك المسارعين بالخيرات بأنّ أعمالهم مكتوبة لهم في كتاب ينطق بالحق لا يخفى حسنة من حسناتهم ويستوفونها كاملة وفيه وعيد لأهل الشرك والمعاصي بأنّ أعمالهم محصاة عليهم قد ضمها كتاب صادق وسوف يجزون بها وهم لا يظلمون فلا تكتب عليهم سيئة لم يعملوها قط ولا يجزون إلّا بما كانوا يكسبون.
__________________
(١) روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن هذه الآية : (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال : (لا يا بنت الصديق ولكنهم الذين يصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يقبل منهم ، أولائك الذين يسارعون في الخيرات).
(٢) أي : لأنهم : أو من أجل أنهم إلى ربّهم راجعون. وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبرة بما يختم به للعبد ، وفي البخاري :
(وإنما الأعمال بالخواتيم).
(٣) قرىء : (يأتون) من الإتيان ، ولا يختلف المعنى إذ هم يأتون الأعمال الصالحة ويفعلونها ، وقلوبهم خائفة. كما يعطون ما يعطون من الزكاة والنفقات وقلوبهم وجلة أو يعطون الملائكة أعمالهم التي يكتبونها وقلوبهم وجلة.
(٤) (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) أي : في الطاعات كي ينالوا بها أعلى الدرجات والغرفات ولم يقل يسارعون إلى الخيرات إذ هم في الخيرات لم يخرجوا من دائرتها أبدا فهم فيها يسارعون. في الآية إشارة إلى أن الصلاة في أول وقتها أفضل ، وهكذا السبق في كل خير قبل الغير خير.