معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم فيما دار من أحاديث بين سليمان عليهالسلام وبلقيس ملكة سبأ لقد خرجت هي في موكبها الملكي بعد أن احتاطت لعرشها أيّما احتياط. إلا أن العرش وصل قبلها بدعوة الذي عنده علم من الكتاب ، وقبل وصولها أراد سليمان أن يختبر عقلها من حيث الحصافة أو الضعف (١) فأمر رجاله أن يغيروا عرشها بزيادة ونقصان فيه حتى لا يعرف إلا بصعوبة كما قال عليهالسلام (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) إلى معرفته (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) لضعف عقولهم. فلما جاءت قيل لها (أَهكَذا (٢) عَرْشُكِ) فشبهوا عليها في التغيير وفي التعبير ، إذ المفروض أن يقال لها هذا عرشك ومن هنا فطنت لتشبيههم (قالَتْ : كَأَنَّهُ هُوَ) إذ لو قالت : هو لقالوا كيف يكون هو والمسافة مسيرة شهرين ولو قالت ليس هو لقيل لها كيف تجهلين سريرك فكانت ذات ذكاء ودهاء ومن هنا قال سليمان لما أعجب بذكائها (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ (٣) مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) فحمد الله وأثنى عليه ضمن العبارة التى قالها.
وقوله (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) اتباعا لقومها إذ كانوا يعبدون الشمس من دون الله. (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) فهذا سبب عدم إيمانها وتوحيدها وهو ما كان عليه قومها ، وجلس سليمان في بهو صرحه وكان البهو تحته بركة ماء عظيمة فيها أسماك كثيرة وللماء موج ، وسقف البركة مملس من زجاج ، ومع سليمان جنوده من الإنس والجن يحوطون به ويحفونه من كل جانب وأمرت أن تدخل الصرح (٤) لأن سليمان الملك يدعوها (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) ماء (وَكَشَفَتْ عَنْ (٥) ساقَيْها) فقال لها سليمان (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) أي مملّس (مِنْ قَوارِيرَ) زجاجية وهنا وقد بهرها الموقف وعرفت أنها كانت ضالة وظالمة نطقت قائلة (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وبهذا أصبحت مسلمة صالحة. ولم يذكر القرآن عنها بعد شيئا
__________________
(١) قيل : إن الجن قالوا لسليمان : إنها ضعيفة العقل فلذا أمر بتنكير عرشها ليختبر عقلها ، وقالوا له : إن رجلها كرجل حمار فلذا امتحنها بدخول بهو الصرح لتكشف عن ساقها فيعرف ما قالت الجن عنها.
(٢) الاستفهام للتقرير مع الاختبار وهو المقصود.
(٣) اختلف هل قول : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) من قول سليمان أو أحد رجالاته أو هو من قول بلقيس ، والراجح أنه من قول سليمان عليهالسلام.
(٤) (الصرح) البناء العالي : تقدم أن الجن هم الذين قالوا لسليمان إن رجل بلقيس رجل حمار وطلبوا اختبارها وهم الذين صنعوا بركة الماء في بهو الصرح.
(٥) ذكر القرطبي هنا حكايات أكثرها منقول عن أهل الكتاب منها : أن الجن أول من صنعوا النورة لإزالة شعر الجسم ، وأن سليمان عليهالسلام أول من صنع الحمامات ، وهذا يرفع إلى النبي صلىاللهعليهوسلم وذكر قولين أحدهما أن سليمان تزوج بلقيس وآخر : لم يتزوجها.