معنى الآيات :
ما زال السياق في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالنبوة والبعث الآخر ولقد تقدم تقرير كل من عقيدة التوحيد بأدلة لا ترد ، وكذا تقرير عقيدة البعث والجزاء ولكن المشركين ما زالوا يعارضون ويمانعون بل ويمكرون فلذا نهى الله تعالى رسوله عن الحزن على المشركين في عدم إيمانهم كما نهاه عن ضيق (١) صدره مما يمكرون (٢) ويكيدون له ولدعوة الحق التي يدعو إليها. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٧٠) وأما الآية الثانية والثالثة فإنه تعالى يخبر رسوله بما يقول أعداؤه ويلقنه الجواب. فقال تعالى : (٧١) (وَيَقُولُونَ مَتى) (٣) (هذَا الْوَعْدُ) ـ أي بالعذاب ـ (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ـ فيما تقولون وتعدون ـ (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) أي اقترب (٤) منكم ودنا وهو ما حصل لهم في بدر من الأسر والقتل هذا ما دلت عليه الآيتان (٧١ و ٧٢).
وقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) (٥) مؤمنهم وكافرهم إذ خلقهم ورزقهم وعافاهم ولم يهلكهم بذنوبهم (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) فها هم أولاء يستعجلون العذاب ويطالبون به ومع هذا يمهلهم لعلهم يتوبون ، وهذا أعظم فضل. وقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ (٦) صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي لا يخفى عليه من أمرهم شىء وسيحصي لهم أعمالهم ويجزيهم بها وفى هذا تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ووعيد لهم وتهديد وقوله تعالى : (وَما مِنْ (٧) غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). وهو اللوح المحفوظ أي إن علم ربك أحاط بكل شىء ولا يعزب عنه شىء وهذا مظهر من مظاهر العلم الإلهي المستلزم للبعث والجزاء ، إذ لو قل علمه بالخلق لكان من الجائز أن يترك بعضا لا يبعثهم ولا يحاسبهم ولا يجزيهم.
__________________
(١) الضيق : بفتح الضاد وكسرها قرأه الجمهور بالفتح ، وقرأ غيرهم بالكسر وحقيقة الضيق : عدم اتساع المكان أو الوعاء لما يراد إدخاله فيه ، والمراد به هنا الحالة الحرجة التي تعرض للنفس عند كراهية شيء فيحس بضيق في صدره.
(٢) ومن أعظم مكرهم به صلىاللهعليهوسلم حكمهم الجائر بقتله في مكة لو لا أنّ الله أنجاه منهم.
(٣) الاستفهام للإنكار والاستعباد ، والآية نزلت في المستهزئين الذين هلكوا ببدر.
(٤) هذا تفسير ل (رَدِفَ لَكُمْ) يقال : ردفه وأردفه : إذا تبعه كتبعه واتبعه وردفه وردف له بمعنى قال الشاعر :
عاد السواد بياضا في مفارقه |
|
لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردف |
والشاهد في ردف وأردف : إذا تبع ، وقال آخر :
إذا الجوزاء أردفت الثريّا |
|
ظننت بآل فاطمة الظنونا |
(٥) في إدرار الرزق وتأخير العقوبة.
(٦) قرىء : تكن من كن الشيء يكنه إذا ستره ، وقرأ الجمهور (تكن) من أكنّ الشيء إذا ستره أيضا.
(٧) قال الحسن : الغائبة هنا : القيامة ، وهو حق ولكن اللفظ أعم إذ هو يشمل كل غيب وهو ما غاب عن الخلق في الأرض أو في السماء ، فالله تعالى يعلمه وكيف لا ، وقد كتبه في كتاب المقادير والغائبة : اسم للشيء الغائب ، والتاء فيه للنقل من الوصفية إلى الأسمية كالتاء في الفاتحة ، والعاقبة ، والمراد ما غاب عن علم الناس ، واشتقاقه من الغيب ضدّ الحضور.