ويقال له : لا تمدن عينيك إلى شهود الحس ، ولا إلى ما متعنا به أصنافا من أهل الحس ، الواقفين مع شهود الحس ؛ فإن ذلك يحجبك عن شهود المعاني القائمة بالأوانى ، بل المفنية للأوانى عند سطوع المعاني. ولا تحزن عليهم حيث رأيتهم منهمكين فى الحس ؛ فإن قيام عالم الحكمة لا يكون إلا بوجود أهل الحس ، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين بخصوصيتك ، وقل : إنى أنا النذير المبين من الاشتغال بالبطالة ، والغفلة ، حتى ينزل بأهلهما ما نزل على المقتسمين ، الذين جعلوا القرآن عضين ؛ أجزاء متفرقة ؛ فما كان فيه مما يدل على التسهيل لجواز جمع الدنيا واحتكارها والاشتغال بها أخذوا به ، وما كان فيه مما يدل على الزهد فيها ، والانقطاع إلى الله عنها ، والتجريد عن أسبابها ، رفضوه. فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون.
فاصدع ، أيها العارف الواعظ ، بما تؤمر ؛ من الأمر بالزهد ، والانقطاع إلى الله ، ولرفض كل ما يشغل عن الله ، ولا تراقب أحدا فى ذات الله ، وأعرض عن المشركين ، الذين أشركوا فى محبة الله سواه ، وشهدوا الأكوان موجودة مع الله ، وهى ثابتة بإثباته ، ممحوه بأحدية ذاته ، فلا وجود لها فى الحقيقة مع الله. فإن استهزءوا بك ، وصغروا أمرك ، فسيكفيكهم الله. فاشتغل بالله عنهم ، فلا يضيق صدرك بما فيه يخوضون ، (فسبح بحمد ربك) أي : نزهه عن شهود السّوى معه ، حامدا الله على ما أولاك من نعمة توحيده ، (وكن من الساجدين) لله شكرا ، وقياما برسم العبودية ، أو : كن من الساجدين بقلبك فى حضرة القدس ، حتى يأتيك اليقين (١).
وفى الورتجبي ، فى قوله : (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك) ، قال : واسى الحقّ حبيبه بما سمع من أعدائه ، وقال له : أنت بمرأى منا ، يضيق صدرك ؛ من لطافتك ، بما يقول الجاهلون بنا فى حقنا ، مما لا يليق بتنزيهنا ، فنزه أنت صفتنا مكان مقالتهم فينا ، فإنّ مثلك منزهنا لا غير ، وكن من الساجدين حتى ترانا بوصف ما علمت منا ، وتخرج من ضيق الصدر بما تشاهد من جمالنا ، فإذا كنت تعايننا سقط عنك ضيق صدرك من جهة مقالتهم. ه.
وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
__________________
(١) اليقين ـ هنا ـ هو الموت. أي : اعبد ربك إلى آخر لحظة من عمرك.