وقيل : هم الذين قتلوا ببدر ؛ كأبى جهل ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف ، وعقبة بن أبى معيط. والأول أرجح ؛ لأن الله تعالى كفاه أمرهم بمكة قبل الهجرة. إلا أن يكون عبّر بالماضي عن المستقبل ؛ لتحققه ، أي : إنا سنكفيك المستهزئين (الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) يعبدونه من دون الله (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة أمرهم فى الدارين.
ثم سلّى نبيه عن أذاهم فقال : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) فى جانبنا ؛ من الشرك والطعن فى القرآن ، والاستهزاء بك ، فلا تعبأ بهم ، ولا تلتفت إليهم. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : فنزه أنت ذاتنا وصفتنا ، مكان مقالتهم فينا ؛ فإن مثلك منزهنا لا غير ، (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي : المصلين ، أو : فافزع إلى الله فيما نابك وضاق منه صدرك بالتسبيح والتحميد. (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) ؛ من المصلين ، يكفك ، ويكشف الغم عنك ، وعنه صلىاللهعليهوسلم : «أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» (١) أو : فنزهه عما يقولون ، حامدا له على أن هداك للحق ، وكن من الساجدين له شكرا.
(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي : الموت ، فإنه متيقن لحاقه ، وليس اليقين من أسماء الموت ، وإنما العلم به يقين ، لا يمترى فيه ، فسمى يقينا ؛ تجوزا. أو : لما كان يحصل اليقين بعده بما كان غيبا سمى يقينا. والمعنى : فاعبده ما دمت حيا ، ولا تخلّ بالعبادة لحظة. وفى بعض الأحاديث عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال : «إن الله لم يوح إلىّ أن أجمع المال ، وأكون من التاجرين ، وإنما أوحى إلىّ أن : سبح بحمد ربك وكن من الساجدين ، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين» (٢). أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
الإشارة : يقال للعابد ، أو الزاهد : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، تتمتع بحلاوته ، وبالتهجد بتلاوته ، ففيه كفايتك وغناك ، فلا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أصنافا من أهل الدنيا ، الراغبين فيها ، المشتغلين بها عن عبادة خالقها. قيل : لما نزلت هذه الآية قال صلىاللهعليهوسلم : «إياكم والنظر فى أبناء الدنيا ، فإنه يقسى القلب ويورث حب الدنيا ، ولا تكثروا الجلوس مع أهل الثروة ، فتميلوا لزينة الدنيا ؛ فو الله لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء». وقال صلىاللهعليهوسلم : «من تواضع لغنى لأجل غناه اقترب من النار مسيرة سنة ، وذهب ثلثا دينه». هذا إن تواضع بجسمه فقط ، فإن تواضع بجسمه وقلبه ذهب دينه كله.
ويقال للعارف : ولقد آتيناك شهود المعاني ، وغيبناك عن حس الأوانى ، حتى شهدت المتكلم بالسبع المثاني ، فسمعت القرآن من منزله دون واسطة. وذلك بالفناء ، عن الوسائط ، فى شهود الموسوط ، حتى يفنى عن نفسه فى حال قراءته.
__________________
(١) أخرجه بنحوه أبو داود فى (الصلاة ، باب وقت قيام النبي صلىاللهعليهوسلم الليل) عن حذيفة ، وأخرجه الإمام أحمد (٥ / ٣٨٨) فى قصة الخندق مطولا.
(٢) أخرجه ابن عدى فى الكامل (٥ / ١٨٩٧) والواحدي : فى الوسيط (٣ / ٥٤) والبغوي فى تفسيره (٤ / ٣٩٧) عن جبير بن نفيل ، مرسلا ..