وقوله تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) : ما تحمل كل نفس من العلوم ، وما تحمل كل روح من الأسرار. وما تغيض الأرحام ، أي : القلوب ، فقد تنقص أنوارها بمباشرة الأغيار ، وقد تزداد بالتفرغ أو صحبة العارفين الكبار. وكل شىء عنده بمقدار ، فالفتح له وقت معلوم ، وحد محدود ، والمراتب والمقامات مقسومة محدودة فى الأزل ، كل أحد يأخذ ما قسم له. وقوله تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ...) إلخ ، فيه تحقيق المراقبة وتشديد المحاسبة على الخواطر والقلوب. والله تعالى أعلم.
وإذا كان العبد على هداية من ربه أو نعمة ، فلا تزول عنه إلا من جهته ، كما قال تعالى :
(... إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (١٣))
قلت : (وَإِذا) : ظرف ، والعامل فيه : مادل عليه الجواب ، أي : لا يرد ما قضى إذا أراد إنفاذه. و (خَوْفاً وَطَمَعاً) : منصوبان على العلة بتقدير المضاف ، أي : إرادة الخوف والطمع ؛ ليتحد الفاعل. أو بتأويل : يجعلكم ترون البرق خوفا وطمعا. و (الثِّقالَ) : نعت للسحاب ، وجمعه ؛ لأن السحاب جنس بمعنى الجمع. وجملة : (وَهُمْ يُجادِلُونَ) : إما استئنافية ، أو حال من الموصول. و (الْمِحالِ) : المكر والخديعة. من محل بفلان إذا كاده وعرّضه للهلاك ، ومنه تمحّل : إذا تكلّف استعمال الحيلة ، فالميم أصلية ، ووزنه : فعال ، وقيل : مشتق من الحيلة ، فالميم زائدة ، ووزنه : مفعل ، وأصله : محيل.
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من النعم والعافية إلى النقمة والبلية (حَتَّى يُغَيِّرُوا) هم (ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الطاعة وترك المعصية ، إلى ارتكاب الذنوب. فلا يسلب النعم عن قوم إلا بارتكاب ذنب ، ولو من البعض إذا سكت الكل. (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي : فلا رادّ له ولا معقب لحكمه ، (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) أي : ليس لهم من يلى أمرهم ، ويدفع عنهم السوء الذي قضاه الله عليهم ، وأراد نزوله بهم ؛ لأن وقوع خلاف مراد الله تعالى محال.
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي : خوفا مما ينشأ عن البرق من الصواعق والأمور الهائلة ، وطمعا فى نزول الغيث الذي يكون معه غالبا ، (وَيُنْشِئُ) أي : يخلق (السَّحابَ) ؛ الغيم المسحب ، (الثِّقالَ) :