(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي : الغائب عن الحس ، والظاهر فيه (الْكَبِيرُ) : العظيم الشأن ، الذي يصغر كل شىء دون عظمته وكبريائه ، (الْمُتَعالِ) : المستعلى عن سمة الحوادث ، أو : المستعلى بقدرته على كل شىء. (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) فى نفسه (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) لغيره ، (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) : طالب للخفاء مستترا بظلمة الليل ، (وَ) من هو (سارِبٌ بِالنَّهارِ) أي : بارز فيه. فقد أحاط الله بذلك ، علما وسمعا وبصرا. فالآية مقررة لما قبلها من كمال علمه وشموله.
(لَهُ مُعَقِّباتٌ) أي : لمن أسر أو جهر ، أو استخفى أو برز ، (مُعَقِّباتٌ) : ملائكة تعتقب فى حفظه ، أي : يعقب بعضها بعضا ، اثنان بالليل واثنان بالنهار ، أو : لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونها. أو : جماعة من الملائكة وكلّهم الله بحفظ الآدمي ، يعقب بعضهم بعضا ، وهو مناسب لقوله : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي : يحرسونه من الآفات التي تنزل من أمر الله وإرادته. أو : يحفظونه من عقوبة الله وغضبه. إذا أذنب ذنبا أمهلوه واستغفروا له. أو : يراقبون أحواله من أجل أمر الله ، إذ أمرهم الله بذلك ، أو يكون صفة للمعقبات ، أي : له معقبات من أجل أمر الله ، حيث أمرهم بحفظه. وقيل : الضمير فى (لَهُ) : يعود إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، المتقدم فى قوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) ، فتكون نزلت فيمن أراد غدر النبي صلىاللهعليهوسلم سرا ، على ما يأتى فى الآية الآتية. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد تقدم مرارا حال من طلب الكرامة من الأولياء ، وأنه جاهل بهم ، ولا يعرفهم مادام يلتمس الكرامة منهم. وأىّ كرامة أعظم من الاستقامة ، والمعرفة بالله ، على نعت الشهود والعيان؟!. وقوله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي : ولكل عصر عارف بالله ، يهدى الناس إلى حضرة الله ، وهم ورثة الهادي الأعظم والنبي الأفخم ، نبينا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أولهم سيدنا على ـ كرم الله وجهه ؛ للحديث المتقدم ، لأنه أول من أظهر علم التصوف وأفشاه ، ثم أخذه عنه الحسن البصريّ وهذبه ، ثم حبيب العجمي ، ثم داود الطائي ، ثم معروف الكرخي ، ثم سرى السقطي ، ثم إمام الطريقة : أبو القاسم الجنيد ، ثم انتشر فى الأرض ، فلكل عصر رجال يحملون لواء الحقيقة ، ويهدون الناس إلى لباب الشريعة. وهم العارفون بالله. قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يبعث الله على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لهذه الأمّة أمر دينها» (١) أي : يجدد الطريقة بعد دروسها ، ويحيى الحقيقة بعد خمود أنوارها ، ويظهر الشريعة بعد خفاء أعلامها. وقد يكون واحدا ومتعددا. وقد بعث الله فى رأس هذه المائة الثالثة عشر ، أربعة ، أحيا الله بهم الحقيقة ، وأظهر بهم أنوار الشريعة ، يمشون فى الأرض بالنصيحة ، ويهدون الناس إلى رب العالمين ، والله ولى المتقين ، وشهرتهم تغنى عن تعيينهم ، وتقدم اثنان فى العقود.
__________________
(١) أخرجه ابن داود فى (الملاحم ، باب ما يذكر فى قرن المائة) من حديث أبى هريرة ، وصححه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ١٨٤٥).