يقول الحق جل جلاله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة : (لَوْ لا) : هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) أي : معجزة واضحة (مِنْ رَبِّهِ) كما أوتى موسى وعيسى. ولم يعتدوا بالآيات المنزلة عليه ؛ كانشقاق القمر وانقياد الشجر ، وتسليم الحجر ، وأعظمها : القرآن العظيم. وذلك عناد منهم. قال تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) ؛ مرسل إليهم لتنذرهم كغيرك من الرسل ، وما عليك إلا الإتيان بما تصح به نبوتك من جنس المعجزات ، لا مما يقترح عليك. (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) ؛ رسول يهديهم إلى الحق والصواب ، مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم ؛ ففى زمن موسى عليهالسلام كان الغالب عليهم السحر ، فأوتى بالعصا تنقلب حية ؛ ليبطل سحرهم ، وفى زمن عيسى عليهالسلام كان الغالب عليهم الطب ، فأوتى إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى الذي يعجزون عن مثله ، وفى زمن نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم كان الغالب عليهم البلاغة والفصاحة ، بها كانوا يتباهون ويتناضلون ، فأوتى القرآن العظيم ، أعجز ببلاغته البلغاء والفصحاء. أو : ولكل قوم هاد ، يقدر على هدايتهم ، وهو الله تعالى ، أي : إنما عليك الإنذار ، والله هو الهادي لمن يشاء ، أو : ولكل قوم واعظ ومذكر من نبىّ أو ولىّ. روى أنها لما نزلت قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنا المنذر ، وأنت يا علىّ الهادي» (١).
ثم أردف ذلك ما يدل على كمال علمه وقدرته ، وشمول قضائه وقدره ؛ تنبيها على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه ، وإنما لم ينزله ؛ لعلمه بأن اقتراحهم كان عنادا لا استرشادا. أو أن وقت الإنزال لم يحضر ، فقال : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) هل هو ذكر أو أنثى ، أو تام أو ناقص ، أو حسن أو قبيح (٢). وهو من الخمس التي اختص بها. (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) أي : ما تنقص فى الجثة بمرض الجنين أو إسقاطه ، وما تزداد بنمو الجنين إلى أمده أو أكثر. قال البيضاوي : مدة الحمل عندنا أربع سنين ، وخمس عند مالك ، وسنتان عند أبى حنيفة. روى أن الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حيان لأربع سنين. وأعلى عدده لا حد له. (٣) ـ قلت : يعنى مع تحققه ـ وقيل : المراد نقصان دم الحيض وزيادته. ه. (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) : بقدر محدود ، ووقت مخصوص ، لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، فالحق ـ تعالى ـ قد خص كل حادث بوقت مخصوص معين ، وهيأ له أسبابا تسوقه إليه على ما تقتضيه حكمته.
__________________
(١) أخرجه الطبري فى تفسيره (١٣ / ١٠٨) عن ابن عباس. وانظر تفسير ابن كثير (٢ / ٥٠٢) والآلوسى (١٣ / ٨).
(٢) هذا النوع الذي ذكره الشيخ المفسر ، من المعرفة ، ليس هو النوع الذي اختص الله نفسه بعلمه ـ وهو يعلمه أيضا ـ فإن هذا العلم ممكن للإنسان ، بل قد علمه فعلا عن طريق الأشعة وغيرها. والأساس فى فهم الآية قوله تعالى فى الآية «ما» وهى التي تدل على الماهية.
فقوله تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أي : يعلم ماهيته وحقيقته ، هل يكون شخصا مؤمنا أو كافرا ، سعيدا أو شقيا فى الدنيا والآخرة ، يعلم كنهه وهويته ومعتقده ، واتجاهاته وميوله ، وفكره وعمله ، ونيته ومصيره ، علما كليا وتفصيليا ، وهو ما يستحيل على العقل البشرى أن يعلمه ، فالله هو المختص وحده بعلم ذلك كله ، فضلا على علمه : هل هو ذكر أو أنثى .. إلخ ما يعلمه الإنسان بأدوات العلم التجريبى.
(٣) ما قاله الإمام البيضاوي عن مدة الحمل يرجع فيه إلى أهل الطب المختصين ، (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) ، وقد قال أهل الاختصاص : إن الجنين إذا ظل فى الرحم أكثر من مدته ، فإن الرحم قد ينفجر. إلخ ما قالوا.