وأبهم على عباده أمرها ، فلو ظهرت لبطل سر التكليف. ولذلك لما سئل عنه سيدنا على ـ كرم الله وجهه ـ قال للسائل : (بحر عميق لا تطيقه) ، فأعاد عليه السؤال ، فقال : (طريق مظلم لا تسلكه) ؛ لأنه لا يفهم سر القضاء والقدر ، إلا من دخل مقام الفناء والبقاء ، وفرّق بين القدرة والحكمة ، وبين العبودية والربوبية ، فإذا تحقق العارف بالوحدة ، علم أنّ الحق تعالى أظهر من خلقه مظاهر أعدهم للإكرام ، وأظهر خلقا أعدهم للانتقام ، وأبهم الأمر عليهم ، ثم خلق فيهم كسبا واختيارا فيما يظهر لهم ، وكلفهم ؛ لتقوم الحجة عليهم ، وتظهر صورة العدل فيهم. (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً). فالقدرة تبرز ما سبق فى الأزل ، والحكمة تستر أسرار القدر. لكن جعل للسعادة علامات كالتوفيق والهداية للإيمان ، وللشقاوة علامات ؛ كالخذلان والكفران. نعوذ بالله من سوء القضاء وحرمان الرضا. آمين.
ومن علامة السعادة : التمسك بما جاء به القرآن العظيم ، كما قال تعالى :
(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠))
قلت : (وَأَنَّ الَّذِينَ) : إما عطف على (إِنَّ) الأولى ، أو على (وَيُبَشِّرُ) بإضمار يخبر.
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي) ؛ للطريق التي (هِيَ أَقْوَمُ) الطرق وأعدلها ، (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ) الأعمال (الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً) وهو : الخلود فى النعيم المقيم ، وزيادة النظر إلى وجهه الكريم. (وَ) يخبر (أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا) أي : أعددنا (لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ، أو : ويبشر المؤمنين ببشارتين : ثوابهم ، وعقاب أعدائهم.
الإشارة : لا شك أن القرآن يهدى إلى طريق الحق ؛ إما إلى طريق توصل إلى نعم جنانه ، أو إلى طريق توصل إلى شهوده ودوام رضوانه ، فالأولى طريق الشرائع والأحكام ، والثانية طريق الحقائق والإلهام ، لكن لا يدرك هذا من القرآن إلا من صفت مرآة قلبه بالمجاهدة والذكر الدائم ، ولذلك أمر شيوخ التربية المريد بالاشتغال بالذكر المجرد ، حتى يشرق قلبه بأنوار المعارف ، ويرجع من الفناء إلى البقاء ، ثم بعد ذلك يمر بالتلاوة ، ليذوق حلاوة القرآن ، ويتمتع بأنواره وأسراره ، وقد أنكر بعض من لا معرفة له بطريق التربية على الفقراء هذا الأمر ـ أعنى : ترك التلاوة فى بدايتهم ـ ؛ محتجا بهذه الآية ، ولا دليل فيها عليم ؛ لأن كون القرآن يهدى للتى هى أقوم يعنى : التمسك والتدبر فى معانيه ، ولا يصح ذلك على الكمال إلا بعد تصفية القلوب ، كما هو مجرب ، ولا ينكر هذا إلا من لا ذوق له فى علوم القوم ، وربما يذكر وجود التربية من أصلها ، ويسد الباب فى وجوه الناس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.