فإذا اتصل العبد بأهل هذا الطريق ، ثم تأخر الفتح عنه ، فلا يقنط ولا يستعجل ، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله :
(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤))
قلت : (دُعاءَهُ) : مفعول مطلق. والإضافة فى قوله : (آيَةَ اللَّيْلِ) و (آيَةَ النَّهارِ) : بيانية ، أي : فمحونا الآية التي هى الليل ، وجعلنا الآية التي هى النهار مبصرة. وإذا أريد بالآيتين الشمس والقمر ؛ تكون للتخصيص ، أي : وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين ، أو : وجعلنا الليل والنهار ذوى آيتين .. إلخ ، و (كُلَّ شَيْءٍ) : منصوب بفعل مضمر ، يفسره ما بعده ، وكذا : (وَكُلَّ إِنسانٍ) و (يَلْقاهُ مَنْشُوراً) : صفتان لكتاب.
يقول الحق جل جلاله : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) على نفسه وولده وماله (بِالشَّرِّ) عند الغضب والقنط. (دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) ؛ مثل دعائه بالخير. وهو ذم له يدل على عدم صبره ، وربما وافق وقت الإجابة فيهلك ، (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) ؛ يسارع إلى كل ما يخطر بباله ، لا ينظر عاقبته. ويجوز أن يريد بالإنسان الكافر ، وبالدعاء استعجاله بالعذاب ؛ استهزاء ، كقول النضر بن الحارث : اللهم انصر خير الحزبين ؛ (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ..) الآية (١). وقيل : المراد بالإنسان : آدم عليهالسلام ، فإنه لما انتهى الروح إلى سرّته ذهب ليقوم ، فسقط ، وهو بعيد. فإذا نزلت بالإنسان قهرية فلا يقنط ولا يستعجل ، فإنّ وقت الفرج محدود ، فالليل والنهار مطيتان ، يقربان كل بعيد ، ويبليان كل جديد ، ويأتيان بكل موعود.
ولذا قال تعالى إثره : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) دالتين على كمال قدرتنا ، وباهر حكمتنا ، يتعاقبان على الإنسان ، يقربان له كل بعيد ، ويأتيان له بكل موعود. (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) أي : فمحونا الآية التي هى الليل ؛ بأن جعلناها مظلمة ، لتسكنوا فيه ، (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) أي : مضيئة مشرقة لتبتغوا ؛ من فضله ، أو : وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين ، وهما : الشمس والقمر ، (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) ، وهو القمر ؛ بأن جعلناه أطلس ، لا نور فيه من ذاته ، بل نوره مستمد من نور الشمس ، (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ) ، وهى الشمس (مُبْصِرَةً) للناس ، أو مبصرا فيها بالضوء الذاتي ، (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) ؛ لتطلبوا فى بياض النهار أسباب معاشكم ، (وَلِتَعْلَمُوا) ؛
__________________
(١) الآية ٣٢ من سورة الأنفال.