يقول الحق جل جلاله : (مَنِ اهْتَدى) وآمن بالله وبما جاءت به الرسل (فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) ؛ لأن ثواب اهتدائه له ، لا ينجى اهتداؤه غيره ، (وَمَنْ ضَلَ) عن طريق الله (فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) ؛ لأن إثم إضلاله على نفسه ، لا يضر به غيره فى الآخرة ، (وَلا تَزِرُ) أي : لا تحمل نفس (وازِرَةٌ) ؛ آثمة (وِزْرَ) نفس (أُخْرى) أي : ذنوب نفس أخرى ، بل إنما تحمل وزرها ، إلا من كان إماما فى الضلالة ، فيحمل وزره ووزر من تبعه ، على ما يأتى فى آية أخرى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) (١).
ومن كمال عدله تعالى : أنه لا يعذّب حتى ينذر ويعذر على ألسنة الرسل ، كما قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) أحدا فى الدنيا ولا فى الآخرة (حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) يبين الحجج ، ويمهد الشرائع ، ويلزمهم الحجة.
وفيه دليل على أن لا حكم قبل الشرع ، بل الأمر موقوف إلى وروده ، فمن بلغته دعوته ، وخالف أمره ، واستكبر عن اتباعه ، عذبناه بما يستحقه. وهذا أمر قد تحقق بإرسال آدم عليهالسلام ومن بعده من الأنبياء الكرام ـ عليهمالسلام ـ فى جميع الأمم ، قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً) (٢) ، (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٣) ، فإن دعوتهم إلى الله قد انتشرت ، وعمت الأقطار ، واشتهرت ، انظر إلى قول قريش الذين لم يأتهم نبى بعد إسماعيل عليهالسلام : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) (٤) ؛ فإنه يفهم منه أنهم سمعوه فى الملة الأولى ، فمن بلغته دعوة أحد منهم ، بوجه من الوجوه ، فقصّر ، فهو كافر مستحق للعذاب. فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة ، مع إخبار النبي صلىاللهعليهوسلم أن آباءهم ، الذين مضوا فى الجاهلية ، فى النار ، وأن ما يدحرج من الجعل (٥) خير منهم ، إلى غير ذلك من الأخبار. قاله البقاعي.
وقال الإمام أبو عبد الله الحليمي ـ أحد أجلاء الشافعية ، وعظماء أئمة الإسلام ـ فى أول منهاجه ، فى باب : «من لم تبلغه الدعوة» : وإنما قلنا : إن من كان منهم عاقلا مميزا إذا رأى ونظر ، إلا أنه لا يعتقد دينا فهو كافر ؛ لأنه ، وإن لم يكن سمع دعوة نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم ، فلا شك أنه سمع دعوة أحد من الأنبياء قبله ، على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم ، ووفور مدد الذين آمنوا واتبعوهم ، والذين كفروا بهم وخالفوهم ، فإنّ الخبر قد يبلغ على لسان المخالف ، كما
__________________
(١) من الآية ١٢ من سورة العنكبوت.
(٢) من الآية ٢٦ من سورة النحل.
(٣) من الآية ٢٤ من سورة فاطر.
(٤) من الآية ٧ من سورة ص.
(٥) الجعل : حيوان معروف كالخنفساء ... انظر : النهاية فى غريب الحديث (جعل).