يبلغ على لسان الموافق ، وإذا سمع أيّة دعوة كانت إلى الله تعالى ، فترك أن يستدل بعقله ، كان معرضا عن الدعوة فكفر ، والله أعلم. وإن أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ، ولا بدعوة نبى ، ولا عرف أن فى العالم من يثبت إلها ، وما نرى أن ذلك يكون ، فأمره على الاختلاف ، يعنى : عند من يوجب الإيمان بمجرد العقل ، ومن لا يوجبه إلا بانضمام النقل. ه.
وقال الزركشي ، فى آخر باب النيات ، من شرحه على المنهاج : وقد أشار الشافعي إلى عسر تصور عدم بلوغ الدعوة ، حيث قال : وما أظن أحدا إلا بلغته الدعوة ، إلا أن يكون قوم من وراء النهر. وقال الدميري : وقال الشافعي : ولم يبق أحد لم تبلغه الدعوة. انتهى ؛ على نقل شيخ شيوخنا سيدى عبد الرحمن الفاسى رضي الله عنه.
ثم قال تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) أي : تعلقت إرادتنا بإهلاكها ؛ لإنفاذ قضائنا السابق ، ودنا وقت إهلاكها ، (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) ؛ منعميها ، بمعنى رؤسائها ؛ بالطاعة على لسان رسول بعثناه إليهم ، ويدل على ذلك ما قبله وما بعده ، فإن الفسق هو الخروج عن الطاعة ، لقوله : (فَفَسَقُوا فِيها) ؛ خرجوا عن أمرنا. وقيل : أمرناهم : ألهمناهم الفسق وحملناهم عليه ، أو : جعلنا لهم أسباب حملهم على الفسق ؛ بأن صببنا عليهم من النعم ما أبطرهم ، وأفضى بهم إلى الفسوق ، (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) ؛ وجب عليها كلمة العذاب السابق بحلوله ، أو بظهور معاصيهم. (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً) ؛ أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها. (وَكَمْ أَهْلَكْنا) أي : كثيرا أهلكنا (مِنَ الْقُرُونِ) أي : الأمم (مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) ؛ كعاد وثمود وأصحاب الأيكة ، (وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) ؛ عالما ببواطنها وظواهرها ، فيعاقب عليها أو يعفو. وبالله التوفيق.
الإشارة : من اهتدى إلى حضرة قدسنا فإنما يهتدى لينعم نفسه بأسرار قدسنا ، ومن ضل عنها فإنما يضل عليها ؛ حيث حرمها لذيذ المعرفة. فإن كان فى رفقة السائرين ، ثم غلبه القضاء ، فلا يتعدى وبال رجوعه إلى غيره ، بل ما كان يصل إليه من المدد يرجع إلى أصحابه ، وما كنا معذبين أحدا ؛ بإسدال الحجاب بيننا وبينه ، حتى نبعث من يعرّف بنا ، ويكشف الحجاب بيننا وبين من يريد حضرتنا. والمراد بالحجاب : حجاب الوهم ؛ بإثبات حس الكائنات ، فلو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان ، ولو أشرق نور الإيقان لغطى وجود الأكوان. وإذا أردنا أن نتلف قلوبا أمرنا أربابها بالتنعم بالحظوظ والشهوات ، فخرجوا عن طريق المجاهدة والرياضة ، فحق عليها القول بغم الحجاب ، فدمرناها تدميرا ، أي : تركناها تجول فى أودية الخواطر والشكوك ، فتلفت وهلكت ، نعوذ بالله من شر الفتن ودرك المحن.