قلت : (مِنَ) : للبيان ، قدمت على المبيّن ؛ اعتناء ، فالقرآن كله شفاء. وقيل : للتبيعض ، والمعنى : أن منه ما يشفى من المرض الحسى ، كالفاتحة وآية الشفاء ، ومن المرض المعنوي ، كآيات كثيرة.
يقول الحق جل جلاله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) لما فى الصدور ، ومن سقام الريب والجهل ، وأدواء الأوهام والشكوك ، (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) به ، العالمين بما احتوى عليه من عجائب الأسرار وغرائب العلوم ، المستعملين أفكارهم وقرائحهم فى الغوص على درره ويواقيته ، أي : وننزل ما هو تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم ، ورفع الأوهام والشكوك عنهم ، كالدواء الشافي للمرض ، وعن النبي صلىاللهعليهوسلم : «من لم يستشف بالقرآن لا شفاه الله» (١). (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ) ؛ الكافرين المكذبين ، الواضعين الأشياء فى غير محلها ، مع كونه فى نفسه شفاء من الأسقام ، (إِلَّا خَساراً) ؛ إلا هلاكا بكفرهم وتكذيبهم به. ولا يفسر الخسران هنا بالنقصان ؛ فإن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يعبّر عنه بالهلاك ، لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الإسلام ، فهم فى الزيادة فى مراتب الهلاك ، من حيث إنهم ، كلما جدّدوا الكفر والتكذيب بالآيات النازلة ازدادوا بذلك هلاكا.
وفيه إيماء إلى أن ما بالمؤمنين من الشّبه والشكوك المعترية لهم فى أثناء الاهتداء والاسترشاد ، بمنزلة الأمراض ، وما بالكفرة ؛ من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك ، وإسناد زيادة الخسران إلى القرآن ، مع أنهم هم المزدادون فى ذلك بسوء صنيعهم ؛ باعتبار كونه سببا لذلك ، حيث كذّبوا به ، وفيه تعجيب من أمره ؛ حيث جعله مدار الشفاء والهلاك. قاله أبو السعود.
الإشارة : لا يحصل الاستشفاء بالقرآن إلا بعد التصفية والتطهير للقلب ، بالتخلية والتحلية ، على يد شيخ كامل ، عارف بأدواء النفوس ، حتى يتفرغ القلب من الأغيار والأكدار ، ويذهب عنه وساوس النفوس وخواطر القلوب ؛ ليتفرغ لسماع القرآن والتدبر فى معانيه. وأما إن كان القلب محشوا بصور الأكوان ، مصروفا إلى الخواطر والأغيار ، لا يذوق له حلاوة ، ولا يدرى ما يقول ، فلا يهتدى لما فيه من الشفاء ، إذ لا يستشفى بالقرآن إلا من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ولأجل ذلك كان من شأن شيوخ التربية أن يأمروا المريد بالذكر المجرد ، حتى تشرق عليه أنواره ، وتذهب به عنه أغياره. وحينئذ يأمره بتلاوة القرآن ؛ ليذوق حلاوته ، فإذا كمل تطهيره ، تمتع بحلاوة شهود المتكلم ، فيسمعه من الحق بلا واسطة ، وهو المراد بالرحمة المذكورة بعد الشفاء. والله تعالى أعلم.
وإذا أدرك العبد هذه النعمة العظمى ، وجب عليه دوام الشكر ، كما نبّه عليه تعالى بذكر ضدها ، فقال :
(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))
__________________
(١) عزاه فى الكنز (٢٨١١٠٦) للدارقطني فى الأفراد ، عن أبى هريرة رضي الله عنه.