فإن أجاب عنها كلها أو سكت فليس بنبي ، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبى. فبيّن لهم القصتين وأبهم أمر الروح ، وهو مبهم فى التوراة ، فقال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، أظهر فى مقام الإضمار ؛ إظهارا لكمال الاعتناء بشرفه ، أي : هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية ، التي لا يكاد يحوم حولها عقول البشر. (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) لا يمكن تعلقه بأمثال هذه الأسرار.
روى أنه صلىاللهعليهوسلم لما قال لهم ذلك ، قالوا : نحن مختصون بهذا الخطاب ، قال عليه الصلاة والسلام : «بل نحن وأنتم». فقالوا : ما أعجب شأنك ، ساعة تقول : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (١) ، وتارة تقول هذا ، فنزلت : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) (٢) الآية. (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ...) (٣) الآية. وهذا من ركاكة عقولهم ؛ فإن من الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقة البشرية ، بل ما نيط به المعاش والمعاد ، وذلك بالإضافة إلى ما لا نهاية له من متعلقات علمه سبحانه ، قليل ينال به خير : كثير فى نفسه.
وقال ابن حجر : أخرج الطبراني عن ابن عباس أنهم قالوا : أخبرنا عن الروح ، وكيف تعذب الروح فى الجسد ؛ وإنما الروح من الله؟. ه. قلت : يجاب بأنها لما برزت لعالم الشهادة لحقتها العبودية ، وأحاطت به القهرية. وقال القشيري : أرادوا أن يغالطوه فيما به يجيب ، فأمره أن ينطق بأمر يفصح عن أقسام الروح ، لأنّ ما يطلق عليه لفظ (الرُّوحِ) يدخل تحت قوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، ثم قال : وفى الجملة : الروح مخلوقة ، والحق أجرى العادة بأن يخلق الحياة للعبد ، ما دام الروح فى جسده ، والروح لطيفة تقرب للكثافة فى طهارتها ولطافتها. وهى مخلوقة قبل الأجساد بألوف من السنين. وقيل : إن أدركها التكليف ، كان للروح صفاء التسبيح ، وضياء المواصلة ، ويمن التعريف بالحق. ه. وقيل : المراد بالروح : خلق عظيم روحانى من أعظم الملائكة ، وقيل : جبريل عليهالسلام ، وقيل : القرآن. ومعنى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ؛ من وحيه وكلامه ، لا من كلام البشر. والله تعالى أعلم بمراده.
الإشارة : قد أكثر الناس الكلام فى شأن الروح ، فرأى بعضهم أن الإمساك عنها أولى ؛ لأن الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يجب عنها. وبيّن الحق تعالى أنها من أمر الله وسر من أسراره. ورأى بعضهم أن النهى لم يرد عن الخوض فيها صريحا ، فتكلم على قدر فهمه. فقال بعضهم : حقيقة الروح : جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأرطب ، وقال صاحب (الرموز فى فتح الكنوز) على حديث : «من عرف نفسه عرف ربه» : قد ظهر
__________________
(١) من الآية ٢٦٩ من سورة البقرة.
(٢) من الآية ١٠٩ من سورة الكهف.
(٣) من الآية ٢٧ من سورة لقمان ، وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف للثعلبى فى التفسير ، بغير سند ولا راو.