والصدور. وعن ابن مسعود رضي الله عنه : (أول ما تفقدون من دينكم : الأمانة ، وآخر ما تفقدون الصلاة ، وليصلين قوم ولا دين لهم. وإن هذا القرآن تصبحون يوما وما فيكم منه شىء. فقال رجل : كيف ذلك ، وقد أثبتناه فى قلوبنا ، ودونّاه فى مصاحفنا ، وعلمناه أبناءنا ، وأبناؤنا يعلمه أبناءهم؟! فقال : يسرى عليه ، ليلا ، فيصبح الناس منه فقراء ، ترفع المصاحف ، وينزع ما فى القلوب) (١). (ثُمَ) إن رفعناه (لا تَجِدُ لَكَ بِهِ) أي : القرآن (عَلَيْنا وَكِيلاً) أي : من يتوكل علينا استرداده مسطورا محفوظا ، (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ؛ فإنها إن تأتك لعلها تسترده ، أو : لكن رحمة من ربك أمسكته ؛ فلم يذهب. (إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) ، كإرسالك للناس كافة ، وإنزال الكتاب عليك ، وإنعامه فى حفظك ، وغير ذلك مما لا يحصى.
ثم نوّه بقدر الكتاب الذي أنزله فقال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) ، واتفقوا (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة فى البلاغة ، وحسن النظم ، وكمال المعنى ، (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) أبدا ؛ لما تضمنه من العلوم الإلهية ، والبراهين الواضحة ، والمعاني العجيبة ، التي لم يكن لأحد بها علم ، ثم جاءت فيه على الكمال ، ولذلك عجزوا عن معارضته. وقال أكثر الناس : إنما عجزوا عنه ؛ لفصاحته ، وبراعته ، وحسن نظمه. ووجوه إعجازه كثيرة. وإنما خص الثقلين بالذكر ؛ لأن المنكر كونه من عند الله منهما ، لا لأنّ غيرهما قادر على المعارضة. وإنما أظهر فى محل الإضمار ، ولم يقل : لا يأتون به ؛ لئلا يتوهم أن له مثلا معينا ، وإيذانا بأن المراد نفى الإتيان بمثل ما ، أي : لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات البديعة ، وفيهم العرب العاربة ، أرباب البراعة والبيان. فلا يقدرون على الإتيان بمثله (وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) أي : ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان بمثله ما قدروا. وهو عطف على مقدر ، أي : لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرا لبعض ، ولو كان .. إلخ. ومحله النصب على الحالية ، أي : لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ، ولو على هذه الحالة.
ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) أي : كررنا ورددنا على أنحاء مختلفة ، توجب زيادة تقرير وبيان ، ووكادة رسوخ واطمئنان ، (لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ) المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة ، (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ؛ من كل معنى بديع ، هو ، فى الحسن والغرابة واستجلاب الأنفس ، كالمثل ؛ ليتلقوه بالقبول ، أو بيّنّا لهم كل شىء محتاجون إليه من العلوم النافعة ، والبراهين القاطعة ، والحجج الواضحة. وهذا يدل على أن إعجاز القرآن هو بما فيه من
__________________
(١) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (باب فى الأمانات .. / ٥٢٧٣) ببعض الاختصار ؛ موقوفا.