قلت : من قرأ (كِسَفاً) ؛ بالتحريك : فهو جمع. ومن قرأ بالسكون : فمفرد. و (قَبِيلاً) : حال من «الله». وحذف حال الملائكة ؛ لدلالة الأول عليه. و (أَنْ يُؤْمِنُوا) : مفعول ثان لمنع. و (إِلَّا أَنْ قالُوا) : فاعل (مَنَعَ).
يقول الحق جل جلاله : (وَقالُوا) أي : كفار قريش ، عند ظهور عجزهم ، ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلى ، وغيره من المعجزات الباهرة ، معلّلين بما لا يمكن فى العادة وجوده ، ولا تقتضى الحكمة وقوعه ، من الأمور الخارقة للعادة ، كما هو ديدن المبهوت المحجوج ، قالوا للنبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى جمع من أشرافهم : إن مكة قليلة الماء ، ففجر لنا فيها عينا من ماء ، وهو معنى قوله تعالى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ) ؛ أرض مكة (يَنْبُوعاً) ؛ عينا لا ينشف ماؤها. وينبوع : يفعول ، من نبع الماء إذا خرج.
(أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) أي : بستان يستر أشجاره ما تحتها من العرصة ، (مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ) أي : تجريها بقوة ، (خِلالَها) ؛ فى وسطها (تَفْجِيراً) كثيرا ، والمراد : إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها ، أو إدامة إجرائها ، كما ينبىء عنه «الفاء» ، (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) (١) ؛ قطعا متعددة ، أو قطعا واحدا ، و (كَما زَعَمْتَ) : يعنون بذلك قوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) (٢) ، (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) أي : مقابلا ؛ نعاينه جهرا ، أو ضامنا وكفيلا يشهد بصحة ما تدعيه ، (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي : ذهب. وقرئ به. وأصل الزخرفة : الزينة ، (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) أي : فى معارجها ؛ فحذف المضاف. (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) أي : لأجل رقيك فيها وحده (حَتَّى تُنَزِّلَ) منها (عَلَيْنا كِتاباً) فيه تصديقك ، (نَقْرَؤُهُ) نحن ، من غير أن يتلقى من قبلك. وعن ابن عباس رضي الله عنه : قال عبد الله بن أميّة لرسول صلىاللهعليهوسلم ـ وكان ابن عمته ـ : لن أؤمن لك حتّى تتّخذ إلى السماء سلّما ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر ، حتّى تأتيها ، وتأتى معك بصك منشور ، معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول. ه. ثم أسلم عبد الله بعد ذلك. ولم يقصدوا بتلك الاقتراحات الباطلة إلا العناد واللجاج. ولو أنهم أوتوا أضعاف ما اقترحوا من الآيات ، ما زادهم ذلك إلا مكابرة. وإلا فقد كان يكفيهم بعض ما شهدوا من المعجزات ، التي تخر لها صم الجبال.
قال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام ـ : (قُلْ) ؛ تعجبا من شدة شكيمتهم. وفى رواية «قال» : (سُبْحانَ رَبِّي) ؛ تنزيها له من أن يتحكم عليه أو يشاركه أحد فى قدرته. أو تنزيها لساحته ـ سبحانه ـ عما لا يليق بها ، من مثل هذه الاقتراحات الشنيعة ، التي تكاد السموات يتفطرن منها ، أو عن طلب ذلك ، تنبيها على بطلان ما قالوه ، (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً) لا ملكا ، حتى يتصور منى الرقى فى السماء ونحوه ، (رَسُولاً) ؛ مأمورا من قبل ربى
__________________
(١) قرأ نافع وابن عامر وعاصم : (كسفا) بفتح السين ، أي : قطعا ، جمع كسفة ، وقرأ الباقون : بسكون السين ؛ على التوحيد ، جمع «كسفة» ؛ كسدرة وسدر. انظر : شرح الهداية (٢ / ٣٩٠) ، والإتحاف (٢ / ٢٠٥).
(٢) من الآية ٩ من سورة سبأ.