ثم ذكر وصيته ليحيى عليهالسلام ونعوته ، فقال :
(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))
قلت : (صَبِيًّا) : حال من مفعول (آتَيْناهُ) ، و (حَناناً) و (زَكاةً) : عطف على (الْحُكْمَ). و (مِنْ لَدُنَّا) : متعلق بمحذوف ، صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية ، أي : وآتيناه الحكم وتحنّنا عظيما واقعا من جنابنا ، أو شفقة فى قلبه ورحمة على أبويه وغيرهما. قال ابن عباس : (ما أدرى ما حنانا إلا أن يكون تعطف رحمة الله على عباده). ومنه قولهم : «حنانيك» ، مثل سعديك ، وأصله : من حنين الناقة على ولدها ، و (بَرًّا) : عطف على (تَقِيًّا).
يقول الحق جل جلاله : (يا يَحْيى) أي : قلنا يا يحيى ، وهذا استئناف طوى قبله جمل كثيرة ، مما يدل على ولادته ونشأته ، حتى أوحى إليه ، ثم قال له : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ) أي : التوراة ، وقيل : كتاب خص به ، فدلت الآية على رسالته. وفى تفسير ابن عرفة : أن يحيى رسول كعيسى. ه. وقوله : (بِقُوَّةٍ) أي : بجد واجتهاد ، وقيل : بالعمل به ، (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) ، قال ابن عباس : (الحكم هنا النبوة ، استنبأه وهو ابن ثلاث سنين) ، قلت : كون الصبى نبيا جائز عقلا ، واقع عند الجمهور ، وأما بعثه رسولا فجائز عقلا ، وظاهر كلام الفخر (١) هنا أنه واقع ، وأن يحيى وعيسى بعثا صغيرين. وقال ابن مرزوق فى شرح البخاري ما نصه : (الأعم : بعث الأنبياء بعد الأربعين) ؛ لأنه بلوغ الأشد ، وقيل : أرسل يحيى وعيسى ـ عليهماالسلام ـ صبيين. وقال ابن العربي : يجوز ، ولم يقع.
وقول عيسى عليهالسلام : (إنى عبد الله) إخبار عما وجب فى المستقبل ، لا عما حصل. واستشكل جواز بعث الصبى بأنه تكليف ، وشرطه : البلوغ ، إن كانت الشرائع فيه سواء. انظر المحشى الفاسى. قلت : والذي يظهر أن يحيى وعيسى ـ عليهماالسلام ـ تنبئا صغيرين ، وأرسلا بعد البلوغ. والله تعالى أعلم. وقيل : الحكم : الحكمة وفهم التوراة والفقه فى الدين. روى أنه دعاه الصبيان إلى اللعب ، فقال : ما للعب خلقت.
(وَ) آتيناه (حَناناً) أي : تحنّنا عظيما (مِنْ لَدُنَّا) : من جناب قدسنا ، أو تحننا من الناس عليه. قال عوف : الحنان المحبّب ، (وَزَكاةً) : طهارة من العيوب والذنوب ، أو صدقة تصدقنا به على أبويه ، أو : وفّقناه للتصدق على الناس. (وَكانَ تَقِيًّا) ؛ مطيعا لله ، متجنبا للمعاصى ، (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) : لطيفا بهما محسنا إليهما ،
__________________
(١) أي الفخر الرازي فى تفسيره.