فأدغمت الواو ـ بعد قلبها ياء ـ فى الياء ، وكسرت الغين للياء (١) ، و (لِنَجْعَلَهُ) : متعلق بمحذوف ، أي : ولنجعله آية فعلنا ذلك ، أو معطوف على محذوف ، أي : لنبين لهم كمال قدرتنا ولنجعله .. إلخ. أو على جملة : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ؛ لأنها فى معنى العلة ، أي : كذلك قال ربك ؛ لقدرتنا على ذلك ؛ ولنجعله .. إلخ.
يقول الحق جل جلاله : (وَاذْكُرْ) يا محمد (فِي الْكِتابِ) : القرآن ، والمراد هذه السورة الكريمة ؛ لأنها هى التي صدرت بذكر زكريا ، واستتبعت بذكر قصة مريم ؛ لما بينهما من الاشتباك. أي : اذكر فى الكتاب نبأ (مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ) ؛ حين اعتزلت (مِنْ أَهْلِها) وأتت (مَكاناً شَرْقِيًّا) من بيت المقدس ، أو من دارها لتتخلى فيه للعبادة ، ولذلك اتخذت النصارى المشرق قبلة. وقيل : قعدت فى مشربة لتغتسل من الحيض ، محتجبة بشىء يسترها ، وذلك قوله تعالى : (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) ، وكان موضعها المسجد ، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ، وإذا طهرت عادت إلى المسجد. فبينما هى تغتسل من الحيض ، محتجبة دونهم ، أتاها جبريل عليهالسلام فى صورة آدمي ، شاب أمرد ، وضىء الوجه.
قال تعالى : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) : جبريل عليهالسلام ، عبّر عنه بذلك ؛ توفية للمقام حقه. وقرىء بفتح الراء ؛ لكونه سببا لما فيه روح العباد ، يعنى اتباعه والاهتداء به ، الذي هو عدة المقربين فى قوله : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) (٢). (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) : سوىّ الخلق ، كامل البنية ، لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئا ، وقيل : تمثل لها فى صورة شاب ترب (٣) لها ، اسمه يوسف ، من خدم بيت المقدس ، وإنما تمثل لها فى تلك الصورة الجميلة لتستأنس به ، وتتلقى منه ما يلقى إليها من كلامه تعالى ؛ إذ لو ظهر لها على صورة الملكية ، لنفرت منه ولم تستطع مقاومته.
وأما ما قيل من أن ذلك لتهيج شهوتها ، فتنحدر نطفتها إلى رحمها ، فغلط فاحش ، ينحو إلى مذهب الفلاسفة ، ولعلها نزعة مسروقة من مطالعة كتبهم ، يكذبه قوله تعالى : (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) ، فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها ميل إليه ، فضلا عن ما ذكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة. نعم يمكن أن يكون ظهر على ذلك الحسن الفائق والجمال اللائق ؛ لابتلائها واختبار عفّتها ، ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه. وذكر عنوان الرحمانية ؛ للمبالغة فى العياذ به تعالى ، واستجلاب آثار الرحمة الخاصة ، التي هى العصمة مما دهمها. قاله أبو السعود. وقولها : (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي : تتقى الله فتبالى بالاستعاذة به.
__________________
(١) أي لمناسة الياء.
(٢) الآيتان ٨٨ ـ ٨٩ من سورة الواقعة.
(٣) أي : فى مثل سنها : فالتّرب : اللّدة والسّنّ ... انظر : اللسان (ترب ١ / ٤٢٥).