قلت : (إِذْ قالَ) : بدل اشتمال من (إِبْراهِيمَ) ، وما بينهما : اعتراض ، أو متعلق بكان.
يقول الحق جل جلاله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) ؛ القرآن أو السورة ، (إِبْراهِيمَ) أي : أتل على الناس نبأه وبلغه إياهم ، كقوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) (١) ؛ لأنهم ينتسبون إليه عليهالسلام ، فلعلهم باستماع قصته يقلعون عما هم عليه من الشرك والعصيان. (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) ؛ ملازما للصدق فى كل ما يأتى ويذر ، أو كثير التصديق ؛ لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله ، فالصدّيق مبالغة فى الصدق ، يقال : كل من صدق بتوحيد الله وأنبيائه وفرائضه ، وعمل بما صدق به فهو صدّيق ، وبذلك سمى أبو بكر الصدّيق ، وسيأتى فى الإشارة تحقيقه عند الصوفية ، إن شاء الله.
والجملة : استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر ؛ فإن وصفه عليهالسلام بذلك من دواعى ذكره ، وكان أيضا (نَبِيًّا) ، أي : كان جامعا بين الصديقية والنبوة ، إذ كل نبى صدّيق ، ولا عكس. ولم يقل : نبيا صديقا ؛ لئلا يتوهم تخصيص الصديقية بالنبوة.
(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) آزر ، متلطفا فى الدعوة مستميلا له : (يا أَبَتِ) ، التاء بدل من ياء الإضافة ، أي : يا أبى ، (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ) ثناءك عليه حين تعبده ، ولا جؤارك إليه حين تدعوه ، (وَلا يُبْصِرُ) خضوعك وخشوعك بين يديه ، أو : لا يسمع ولا يبصر شيئا من المسموعات والمبصرات ، فيدخل فى ذلك ما ذكر دخولا أوليا ، (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) أي : لا يقدر أن ينفعك بشىء فى طلب نفع أو دفع ضرر.
انظر ؛ لقد سلك عليهالسلام فى دعوته وموعظته أحسن منهاج وأقوم سبيل ، واحتج عليه بأبدع احتجاج ، بحسن أدب ، وخلق جميل ، لكن وقع ذلك لسائر ركب متن المكابرة والعناد ، وانتكب بالكلية عن محجة الصواب والرشاد ، أي :
فإنّ من كان بهذه النقائص يأبى من له عقل التمييز من الركون إليه ، فضلا عن عبادته التي هى أقصى غاية التعظيم ، فإنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام ، الخالق الرازق ، المحيي المميت ، المثيب المعاقب ، والشيء لو كان مميزا سميعا بصيرا قادرا على النفع والضر ، لكنه ممكن ، لاستنكف العقل السليم عن عبادته ، فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر.
ثم دعاه إلى اتباعه ؛ لأنه على المنهاج القويم ، مصدّرا للدعوة بما مرّ من الاستعطاف والاستمالة ، حيث قال : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) ، لم يسم أباه بالجهل المفرط ، وإن كان فى أقصاه ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، وإن كان فى أعلاه ، بل أبرز نفسه فى صورة رفيق له ، أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق ،
__________________
(١) من الآية ٦٩ من سورة الشعراء.