فاستماله برفق ، حيث قال : (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي : مستقيما موصلا إلى أسمى المطالب ، منجيا من الضلال المؤدى إلى مهاوى الردى والمعاطب.
ثم ثبّطه عما كان عليه من عبادة الأصنام ، فقال : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) ، فإن عبادتك للأصنام عبادة له ، إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها ، ثم علل نهيه فقال : (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) ، فهو تعليل لموجب النهى ، وتأكيد له ببيان أنه مستعص على ربك ، الذي أنعم عليك بفنون النعم ، وسينتقم منه فكيف تعبده؟.
والإظهار فى موضع الإضمار ؛ لزيادة التقرير ، والاقتصار على ذكر عصيانه بترك السجود من بين سائر جناياته ؛ لأنه ملاكها ، أو لأنه نتيجة معاداته لآدم وذريته ، فتذكيره به داع لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته. والتعرض لعنوان الرحمانية ؛ لإظهار كمال شناعة عصيانه.
وقوله : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) تحذير من سوء عاقبة ما كان عليه من عبادة الشيطان ، وهو اقترانه معه فى الهوان الفظيع. و (مِنَ الرَّحْمنِ) : صفة لعذاب ، أي : عذاب واقع من الرحمن ، وإظهار (الرَّحْمنِ) ؛ للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب ، كما فى قوله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) (١) ، (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) أي : فإذا قرنت معه فى العذاب تكون قرينا له فى اللعن المخلد. فهذه موعظة الخليل لأبيه ، وقد استعمل معه الأدب من خمسة أوجه :
الأول : ندائه : بيا أبت ، ولم يقل يا آزر ، أو يا أبى.
الثاني : قوله : (ما لا يَسْمَعُ ...) إلخ ، ولم يقل : لم تعبد الخشب والحجر.
الثالث : قوله : (إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) ، ولم يقل له : أنك جاهل ضال.
الرابع : قوله : (إِنِّي أَخافُ) ، حيث عبّر له بالخوف ولم يجزم له بالعذاب.
الخامس : فى قوله : (أَنْ يَمَسَّكَ) ، حيث عبّر بالمس ولم يعبر باللحوق أو النزول. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قد جمع الحق تبارك وتعالى لخليله مقام الصدّيقية والنبوة مع الرسالة والخلة ، وقدّم الصديقية لتقدمها فى الوجود فى حال الترقي ، فالصديقية تلى مرتبة النبوة ، كما تقدم فى سورة النساء. فالصدّيق عند الصوفية هو الذي يعظم صدقه وتصديقه ، فيصدّق بوجود الحق وبمواعده ، حتى يكون ذلك نصب عينيه ، من غير تردد ولا تلجلج ، ولا توقف على آية ولا دليل. ثم يبذل مهجته وماله فى مرضاة مولاه ، كما فعل الخليل ، حيث قدم
__________________
(١) الآية ٦ من سورة الانفطار.