فمن اعتزل كل ما سوى الله ، وأفرد وجهته إلى مولاه ، لم يشق فى مطلبه ومسعاه ، بل يطلعه الله على أسرار ذاته ، وأنوار صفاته ، حتى لا يرى فى الوجود إلا الواحد الأحد الفرد الصمد. وبالله التوفيق.
ثم ذكر نتيجة الانفراد عمن يصد عن الله ، فقال :
(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))
قلت : (وَكُلًّا) : مفعول أول لجعلنا ، و (عَلِيًّا) : حال من اللسان.
يقول الحق جل جلاله : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ) أي : اعتزل إبراهيم قومه (وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بأن خرج من «كوثى» بأرض العراق ، مهاجرا إلى الشام واستقر بها ، (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) ولده (وَيَعْقُوبَ) حفيده ، بعد أن وهب له إسماعيل من أمته هاجر ، التي وهبت لزوجه سارة ، ثم وهبتها له ، فولد له منها إسماعيل ، ولما حملت هاجر بإسماعيل غارت منها سارة ، فخرج بها مع ولدها إسماعيل حتى أنزلهما مكة ، فكان سبب عمارتها. ثم حملت سارة بإسحاق ، ثم نشأ عنه يعقوب ، وإنما خصمها بالذكر لأنهما كانا معه فى بلده ، وإسحاق كان متصلا به يسعى معه فى مآربه ، فكانت النعمة بهما أعظم.
ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله هاهنا لبيان كمال عظم النعمة التي أعطاها الله تعالى إياه ، فى مقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقارب ، فإنهما شجرة الأنبياء ، لهما أولاد وأحفاد ، لكل واحد منهم شأن خطير وعدد كثير. (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) أي : وكل واحد منهما أو منهم جعلناه نبيا ورسولا.
(وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) هى النبوة ، وذكرها بعد ذكر جعلهم أنبياء ؛ للإيذان بأنها من باب الرحمة والفضل. وقيل : الرحمة : المال والأولاد ، وما بسط لهم من سعة الرزق ، وقيل : إنزال الكتاب ، والأظهر أنها عامة لكل خير دينى ودنيوى. (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) : رفيعا فى أهل الأديان ، فكل أهل دين يتلونهم ، ويثنون عليهم ، ويفتخرون بهم ؛ استجابة لدعوته بقوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (١).
والمراد باللسان : ما يوجد به الكلام فى لسان العرب ولغتهم ، وإضافته إلى الصدق ، ووصفه بالعلو ؛ للدلالة على أنهم أحقاء لما يثنون عليهم ، وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار ، وتبدل الدول ، وتحول الملل والنحل. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) الآية ٨٤ من سورة الشعراء.