الإشارة : كل من اعتزل عن الخلق وانفرد بالملك الحق ، طلبا فى الوصول إلى مشاهدة الحق ، لا بد أن تفيض عليه المواهب القدسية والأسرار الوهبية والعلوم اللدنية ، وهى نتائج فكرة القلوب الصافية ، وفى الحكم : «ما نفع القلب شىء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة». قال الجنيد رضي الله عنه : أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة فى ميدان التوحيد. وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه : (ثمار العزلة : الظفر بمواهب المنة ، وهى أربعة : كشف الغطاء ، وتنزل الرحمة ، وتحقق المحبة ، ولسان الصدق فى الكلمة ، قال الله تعالى : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ ...) الآية). وقال بعض الحكماء : من خالط الناس داراهم ، ومن داراهم راءاهم ، ومن راءاهم وقع فيما وقعوا ، فهلك كما هلكوا.
وقال بعض الصوفية : قلت لبعض الأبدال المنقطعين إلى الله : كيف الطريق إلى التحقيق؟ قال : لا تنظر إلى الخلق ، فإن النظر إليهم ظلمة ، قلت : لا بد لى ، قال : لا تسمع كلامهم ، فإن كلامهم قسوة ، قلت : لا بد لى ، قال : لا تعاملهم ، فإن معاملتهم خسران ووحشة ، قلت : أنا بين أظهرهم ، لا بد لى من معاملتهم ، قال : لا تسكن إليهم ، فإن السكون إليهم هلكة ، قلت : هذا لعله يكون ، قال : يا هذا أتنظر إلى اللاعبين ، وتسمع كلام الجاهلين ، وتعامل البطالين ، وتسكن إلى الهلكى ، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة وقلبك مع الله؟! هيهات .. هذا لا يكون أبدا ، ثم غاب عنى.
وقال القشيري رضي الله عنه : فأرباب المجاهدات ، إذا أرادوا صون قلوبهم عن الخواطر الردية لم ينظروا إلى المستحسنات ـ أي : من الدنيا ـ. قال : وهذا أصل كبير لهم فى المجاهدات فى أحوال الرياضة. ه. وقال فى «القوت» : ولا يكون المريد صادقا حتى يجد فى الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده فى العلانية ، وحتى يكون أنسه فى الواحدة ، وروحه فى الخلوة ، وأحسن أعماله فى السر. ه.
قلت : العزلة عن الخلق والفرار منهم شرط فى بداية المريد ، فإذا تمكن من الشهود ، وأنس قلبه بالملك الودود ، واتصل بحلاوة المعاني ، ينبغى له أن يختلط بالخلق ويربى فكرته ؛ لأنهم حينئذ يزيدون فى معرفته ويتسع بهم ؛ لأنه يراهم حينئذ أنوارا من تجليات الحق ، ونوارا يرعى فيهم ، فيجتنى حلاوة الشهود ، وفى ذلك يقول شيخ شيوخنا المجذوب :
الخلق نوار وأنا رعيت فيهم |
|
هم الحجاب الأكبر والمدخل فيهم. |
وفى مقطعات الششترى :
عين الزحام |
|
هم الوصول لحيّنا. |
وبالله التوفيق.