ثم ذكر قصة موسى عليهالسلام ، فقال :
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣))
قلت : (نَجِيًّا) : حال من أحد الضميرين فى (نادَيْناهُ) أو (قَرَّبْناهُ) ، وهو أحسن. و (هارُونَ) : عطف بيان.
يقول الحق جل جلاله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى) ، قدّم ذكره على ذكر إسماعيل لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب ؛ لأنه من نسله ، (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) (١) : موحدا ، أخلص عبادته من الشرك والرياء ، وأسلم وجهه لله تعالى ، وأخلص نفسه عما سواه. وقرئ بالفتح ، على أن الله تعالى أخلصه من الدنس. قال القشيري أي : خالصا لله ، لم يكن لغيره بوجه. ثم قال : ولم يغض فى الله على شىء. ه.
(وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبأهم عنه ، ولذلك قدّم رسولا مع كونه أخص وأعلى ، (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) ، الطور : جبل بين مصر ومدين ، أي : ناديناه من ناحيته اليمنى ، وهى التي تلى يمين موسى عليهالسلام ، فكانت الشجرة فى جانب الجبل عن يمين موسى ، أو من أيمن ، أي : من جانبه الميمون ، ومعنى ندائه منه : أنه سمع الكلام من تلك الناحية ، (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) أي : مناجيا لنا نكلمه بلا واسطة ، فالتقريب : تقريب تكرمة وتشريف ، مثّل حاله عليهالسلام بحال من قرّبه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته. وقيل : (نَجِيًّا) من النجو ، وهو العلو والارتفاع ، أي : رفعناه من سماء إلى سماء ، حتى سمع صريف القلم يكتب له فى الألواح.
(وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا) أي : من أجل رحمتنا ورأفتنا به ، أو من بعض رحمتنا (أَخاهُ هارُونَ) ، أي : وهبنا له مؤازرة أخيه ومعاضدته ، إجابة لدعوته : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي) (٢) لا نفسه ؛ لأنه كان أكبر منه ، وجد قبله ، حال كونه (نَبِيًّا) : رسولا مشركا معه فى الرسالة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كما وصف الحق تعالى خليله بالصديقية وصف كليمه بالإخلاص ، وكلاهما شرط فى حصول سر الخصوصية ، سواء كانت خصوصية النبوة أو الولاية ، فمن لا تصديق عنده لا سير له ، ومن لا إخلاص له لا وصول له. وحقيقة الإخلاص : إخراج الخلق من معاملة الحق ، وهى ثلاث طبقات ؛ سفلى ، ووسطى ، وعليا.
__________________
(١) قرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف (مخلصا) بفتح اللام.
(٢) الآيتان ٢ ـ ٣ من سورة طه.