فالسفلى : أن يفعل العبادة لله تعالى ، طالبا لعوض دنيوى ، كسعة الأرزاق ، وحفظ الأموال والبدن ، فهذا إخلاص العوام ، وإنما كان إخلاصا لأنهم لم يلاحظوا مخلوقا فى عملهم.
والوسطى : أن يعبد الله مخلصا ، طالبا لعوض أخروى ، كالحور والقصور.
والعليا : أن يفعل العبادة قياما برسم العبودية ، وأدبا مع عظمة الربوبية ، غير ملتفت لجنة ولا نار ، ولا دنيا ولا آخرة ، مع تعظيم نعيم الجنان ، لأنه محل اتصال الرؤية ؛ كما قال ابن الفارض رضي الله عنه :
ليس شوقى من الجنان نعيما |
|
غير أنى أريدها لأراك |
فإذا تحقق للعبد مقام الإخلاص الكامل ، صار مقربا نجيا فى محل المشاهدة والمكالمة. وبالله التوفيق.
ثم ذكر نبيه إسماعيل عليهالسلام فقال :
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥))
يقول الحق جل جلاله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) ، فصل ذكره عن أبيه وأخيه ؛ لإبراز كمال الاعتناء بأمره ، لإيراده مستقلا بترجمته ، (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) ، هذا تعليل لموجب الأمر بذكره. وإيراده عليهالسلام بهذا الوصف ؛ لكمال شهرته به.
روى أنه واعد رجلا أن يلقاه فى موضع ، فجاء إسماعيل ، وانتظر الرجل يومه وليلته ـ وقيل : ثلاثة أيام ـ فلما كان فى اليوم الآخر ، جاء الرجل ، فقال له إسماعيل : ما زلت هنا من أمس. وقال الكلبي : انتظره سنة ، وهو بعيد. قال ابن عطية : وقد فعل مثل هذا نبينا صلىاللهعليهوسلم قبل مبعثه ، ذكره النقاش وأخرجه الترمذي وغيره ، وذلك فى مبايعة وتجارة (١) ه. وقال القشيري : وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه ، فصبر على ذلك ، إلى أن ظهر الفداء ، وصدق الوعد دلالة حفظ العهد. ه.
وقال ابن عطاء : وعد لأبيه من نفسه الصبر ، فوفى به ، فى قوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (٢). ه. وهذا مبنى على أنه الذبيح ، وسيأتى تحقيق المسألة إن شاء الله (٣).
__________________
(١) أخرج أبو داود فى (الأدب ، باب فى العدة) عن عبد الله بن أبى الحمساء ، قال : بايعت النبي صلىاللهعليهوسلم ببيع قبل أن يبعث ، وبقيت له بقية ، فوعدته أن آتيه بها فى مكانه ، فنسيت ، ثم ذكرت بعد ثلاث ، فجئت فإذا هو فى مكانه ، فقال : «يافتى ، لقد شققت على ، أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك».
(٢) الآية ١٠٢ من سورة الصافات.
(٣) سبق التعليق على هذه المسألة عند تفسير الآية ١٢٤ من سورة البقرة.