(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) ، فيه التفات لإظهار مزيد الاعتناء ، وقرىء : (وَإِنَّ مِنْهُمْ). ويحتمل أن يكون الخطاب لجميع الخلق ، أي : وإن منكم أيها الناس (إِلَّا وارِدُها) أي : واصلها وحاضرها ، يمر بها المؤمنون وهى خامدة ، وتنهار بغيرهم. وعن جابر أنه صلىاللهعليهوسلم سئل عن ذلك فقال : «إذا دخل أهل الجنّة الجنّة قال بعضهم لبعض : أليس قد وعدنا ربّنا أن نرد النّار؟ فيقال لهم : قد وردتموها وهى خامدة». وأما قوله تعالى : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) فالمراد به الإبعاد عن عذابها ، وقيل : ورودها : الجواز على الصراط بالمرور عليها.
وعن ابن مسعود : الضمير فى (وارِدُها) للقيامة ، وحينئذ فلا يعارض : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) (١) ، ولا ما جاء فيمن يدخل الجنة بغير حساب ، ولا مرور على الصراط ، فضلا عن الدخول فيها ، على أنه اختلف فى الورود ، فقيل : الدخول وتكون بردا وسلاما على المؤمن. وقيل : المرور كما تقدم ، وقيل : الإشراف عليها والاطلاع. قال القشيري : كلّ يرد النار ، ولكن لا ضير منها ولا إحساس لأحد إلا بمقدار ما عليه من السيئات ، والزلل ، فأشدّهم فيها انهماكا : أشدهم فيها بالنار اشتعالا واحتراقا ، وأما برىء الساحة ، نقى الجانب بعيد الذنوب ، فكما فى الخبر : «إن النار عند مرورهم ربوة كربوة اللّبن ـ أي : جامدة كجمود اللبن حين يسخن ـ فيدخلونها ولا يحسون بها ، فإذا عبروها قالوا : أليس قد وعدنا جهنم على الطريق؟ فيقال لهم : عبرتم وما شعرتم». ه.
(كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) أي : كان ورودهم إياها أمرا محتوما أوجبه الله تعالى على ذاته ، وقضى أنه لا بد من وقوعه. وقيل : أقسم عليه ، ويشهد له : «إلا تحلة القسم» (٢).
(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) الكفر والمعاصي ، بأن تكون النار عليهم بردا وسلاما ، على تفسير الورود بالدخول ، وعن جابر أنه قال : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : «الورود الدّخول ، لا يبقى برّ ولا فاجر إلّا دخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما ، كما كانت على إبراهيم ، حتّى إنّ للنّار ضجيجا من بردهم» (٣). وإن فسرنا الورود بالمرور ، فنجاتهم بالمرور عليها والسلامة من الوقوع فيها ، (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) : باركين على ركبهم ، قال ابن زيد : الجثى شر الجلوس ، لا يجلس الرجل جاثيا إلا عند كرب ينزل به. ه.
__________________
(١) من الآية ١٠١ من سورة الأنبياء.
(٢) يقصد حديث : «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار ، إلا تحلة القسم» أخرجه البخاري فى (الأيمان والنذر ، باب قول الله تعالى : «وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ» ومسلم فى (البر والصلة ، باب : فضل من يموت له ولد فيحتسبه).
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (٣ / ٣٢٩) والحاكم فى المستدرك (الأهوال ٤ / ٥٨٧) ، والبيهقي فى الشعب (١ / ٣٣٦) ، من حديث جابر ابن عبد الله. والحديث : صححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وقال الهيثمي فى المجمع (٧ / ٥٥) : رواه أحمد ، ورجاله ثقات.