إعدادات
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد [ ج ٣ ]
البحر المديد في تفسير القرآن المجيد [ ج ٣ ]
تحمیل
قلت : «ويزيد» : عطف على «فليمدد» ؛ لأنه فى معنى الخبر ، أي : من كان فى الضلالة يمده الله فيها ، ويزيد فى هداية الذين اهتدوا مددا لهدايتهم ، أو عطف على «فسيعلمون» ، وجمع الضمير فى (رأوا) وما بعدها ؛ باعتبار معنى (من) ، وأفرد أولا باعتبار لفظها.
يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) يا محمد : (مَنْ كانَ) مستقرا (فِي الضَّلالَةِ) مغمورا فى الجهل والغفلة عن عواقب الأمور ، مشتغلا بالحظوظ الفانية ، (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) أي : يمد له بطول العمر وتيسير الحظوظ ، إما استدراجا ، كما نطق به قوله تعالى : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) (١) ، أو قطعا للمعاذير كما نطق به قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) (٢) ، أو : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ) : يدعه فى ضلاله ، ويمهله فى كفره وطغيانه ، كقوله تعالى : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٣). والتعرض لعنوان الرحمانية ؛ لبيان أن أفعالهم من مقتضيات الرحمة مع استحقاقهم تعجيل الهلاك.
وكأنه جل جلاله لما بيّن عاقبة الأمم المهلكة ، مع ما كان لهم من التمتع بفنون الحظوظ العاجلة ، أمر رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لهم من الحظوظ بمآل أمر الفريقين ، وهو استدراج أهل الضلالة ثم أخذهم ، وزيادة هداية أهل الإيمان ثم إكرامهم ، كما بيّن ذلك بقوله : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) ، فهو غاية للحد الممتد ، أي : نمد لهم فى الحياة وفنون الحظوظ حتى ينزل بهم ما يوعدون ؛ (إِمَّا الْعَذابَ) الدنيوي بالقتل ، والأسر ، وغلبة أهل الإيمان عليهم ، (وَإِمَّا السَّاعَةَ) ، وهو يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والهوان ، و «إما» هنا : لمنع الخلو ، لا لمنع الجمع ؛ فإن العذاب الأخروى لا ينفك عنهم بحال.
(فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً) من الفريقين ، بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدّرون ، فيعلمون أنهم شر مكانا ، لا خير مقاما ، (وَ) يعلمون أنهم (أَضْعَفُ جُنْداً) أي : جماعة وأنصارا ، لا أحسن نديّا ، كما كانوا يدعونه ، وليس المراد أن لهم يوم القيامة جندا سيضعف ، وما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وإنما ذكر ذلك ردا لما كانوا يزعمون أن لهم أعوانا وأنصارا ، يفتخرون بهم فى الأندية والمحافل ، فردّ ذلك بأنه باطل وظل آفل ، ليس تحته طائل.
ثم ذكر فريق أهل الإيمان فقال : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) أي : كما يمد لأهل الضلالة ؛ زيادة فى ضلالهم ، كذلك يزاد فى هداية أهل الهداية ؛ ثوابا على طاعتهم ؛ لأن كلا يجزى بوصفه ، فلا تزال الهداية تنمو فى
__________________
(١) من الآية ١٧٨ من سورة آل عمران.
(٢) من الآية ٣٧ من سورة فاطر.
(٣) من الآية ١١٠ من سورة الأنعام.