قلوبهم حتى يردوا موارد الكرم ، أمّا فى الدنيا فبكشف الحجاب وانقشاع السحاب حتى يشاهدوا رب الأرباب ، فما كانوا يؤمنون به غيبا صار عيانا ، وأمّا فى الآخرة فبنعيم الحور والقصور ، ورؤية الحليم الغفور.
فقد بيّن الحق تعالى حال المهتدين إثر بيان حال الضالين ، وأن إمهال الكافر وتمتيعه بالحظوظ ليس لفضله ، وأن منع المؤمن من تلك الحظوظ ليس لنقصه ، بل قوم عجلت لهم طيباتهم فى الحياة الدنيا الفانية ، وقوم ادخرت لهم طيباتهم للحياة الباقية ، قال تعالى : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) ؛ كأنواع الطاعات ، (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ) ؛ لبقاء فوائدها ودوام عوائدها .. وقد تقدم تفسيرها (١).
والتعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلىاللهعليهوسلم لتشريفه ، أي : فهى أفضل (ثَواباً) أي : عائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم الفانية ، التي يفتخرون بها ؛ لأن مآلها الحسرة السرمدية والعذاب الأليم ، ومآل الباقيات الصالحات النعيم المقيم فى دار الدوام ، كما أشير إليه بقوله : (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) أي : مرجعا وعاقبة ، وتكرير الخير لمزيد الاعتناء بشأن الخيرية وتأكيد لها فى التفضيل ، مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيرية فى العاقبة ، ففيه نوع تهكم بهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الحق ـ جل جلاله ـ يرزق العبد على قدر نيته ، ويمده على قدر همته ، فمن كانت همته فى الحظوظ العاجلة والشهوات الفانية ، أمده الله فيها ، ومتعه بها ما شاء ، على حسب القسمة ، ثم أعقبه الندم والحسرة ، ومن كانت همته الآخرة ، أمده سبحانه فى الأعمال التي توصله إلى نعيمها ، كصلاة وصيام وصدقة وتدريس علم ، وأذاقه من حلاوتها ما يهون عليه مرارتها ، ثم أعقبه النعيم الدائم من القصور والحور ، وأنواع الطيبات ، مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
ومن كانت همته الله ـ أي : الوصول إلى حضرته دون شىء سواه ـ أمده الله فى الأعمال التي توصله إليه ، وهى أعمال القلوب ؛ من التخلية والتحلية ، كالتخلية من الرذائل والتحلية بالفضائل ، وكقطع المقامات بأنواع المجاهدات ، ورأس ذلك أن يوصله إلى شيخ كامل جامع بين الحقيقة والشريعة ، بين الجذب والسلوك ، قد سلك الطريق على شيخ كامل ، فإذا وصله إليه وكشف له عن سر خصوصيته فليستبشر بحصول المطلب وبلوغ الأمل. وبالله التوفيق.
ثم ذكر بعض من مدّ له فى الضلالة وخصه بزيادة ضلالته ، فقال :
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠))
__________________
(١) راجع تفسير الآية ٤٦ من سورة الكهف.