الإشارة : سنّة الله تعالى فى أوليائه ، فى حال بدايتهم ، أن يسلط عليهم الخلق ، وينزل عليهم الخمول والذل بين عباده ، حتى يمقتهم أقرب الناس إليهم ، رحمة بهم واعتناء بقلوبهم ؛ لئلا تسكن إلى غيره. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا .. إلخ. فإذا تطهروا من البقايا وكملت فيهم المزايا ، وتمكنوا من معرفة الحق ، أعزهم وألقى مودتهم فى قلوب عباده ، هذا دأبه معهم فى الغالب ، وقد يحكم على بعضهم بالخمول حتى يلقاه على ذلك ، ولا يكون ذلك نقصا فى حقه بل كمالا ، وهم شهداء الملكوت ، لم يأخذوا من أجرهم شيئا. والله تعالى أعلم.
ولما ختم السورة الكريمة ، أمر نبيه صلىاللهعليهوسلم بتبليغها ، فقال :
(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))
قلت : الفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم ، كأنه قيل ـ بعد إيحاء السورة الكريمة : بلغ هذا المنزّل عليك ، وبشر به ، وأنذر ؛ فإنما يسرناه .. إلخ. قاله أبو السعود.
يقول الحق جل جلاله : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي : القرآن (بِلِسانِكَ) بأن أنزلناه على لغتك ، والباء بمعنى «على» وقيل : ضمّن التيسير معنى الإنزال ، أي : يسرنا القرآن وأنزلناه بلغتك (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) أي : السائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهى ، (وَتُنْذِرَ بِهِ) أي : تخوف به (قَوْماً لُدًّا) لا يؤمنون به ، لجاجا وعنادا ، واللّدّ : جمع ألد ، وهو الشديد الخصومة ، اللجوج المعاند.
(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) أي : كثيرا من القرون الماضية أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين ، فهو وعد لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بالنصر على الكفرة ووعيد لهم بالهلاك ، وحث له صلىاللهعليهوسلم على الإنذار ، أي : دم على إنذارك لهم ، فسيهلكون كما أهلكنا من قبلهم من القرون ، (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) أي : هل تشعر بأحد منهم ، وترى له من باقية (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) أي : صوتا خفيا ، هيهات قد انقطع دابرهم وهدأت أصواتهم ، وخربت قصورهم وديارهم ، وكذلك نفعل بغيرهم ، والمعنى : أهلكناهم بالكلية ، واستأصلناهم بحيث لا يرى منهم أحد ، ولا يسمع لهم صوت خفى ولا جلى. وجملة : (هَلْ تُحِسُّ) : استئناف مقرر لمضمون ما قبله ، وأصل الّركز : الخفاء ، ومنه : ركز الرمح ؛ إذا غيب طرفه فى الأرض ، والرّكاز : المال المدفون المخفي. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما أنزل الله القرآن وسهله على عباده إلا ليقع به الوعظ والتذكير ، فأمر الله رسوله فى حياته بالبشارة والإنذار به ، وبقي الأمر لخلفائه ، فالواجب على العلماء والأولياء أن يتصدوا للوعظ والتذكير ، ولا يكفى عنه تعليم رسوم الشريعة ، فإن الوعظ إنما هو التخويف والتبشير ، كما قال تعالى : (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا).