لهم فى القلوب مودة من غير تعرض لأسبابها ، سوى ما لهم من الإيمان والعمل الصالح ، أو (وُدًّا) فيما بينهم ، فيتحابون ويتواددون ويحبهم الله.
قال القشيري : يجعل فى قلوبهم ودّا لله ، وهو نتيجة أعمالهم الخالصة ، وفى الخبر : «لا يزال العبد يتقرب إلىّ بالنوافل حتى يحبنى وأحبه». والتعرض لعنوان الرحمانية ؛ لما أنّ الموعود من آثارها ، وأن مودتهم رحمة بهم وبمن أحبهم. وعن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال لعلىّ رضي الله عنه : «قل اللهمّ اجعل لى عندك عهدا ، واجعل لى فى صدور المؤمنين مودّة» فنزلت الآية (١). وفى حديث البخاري وغيره : «إذا أحبّ الله عبدا قال لجبريل : إنى أحب فلانا فأحبّه ، فيحبّه جبريل ، ثمّ ينادى فى أهل السّماء إنّ الله قد أحبّ فلانا فأحبّوه ، فيحبّه أهل السّماء ، ثمّ يضع له المحبة فى الأرض» (٢).
وقال قتادة : (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) قال : أي والله ودا فى قلوب أهل الإيمان. وإن هرم بن حيان يقول : ما أقبل عبد بقلبه على الله إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه ، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. قلت : ولفظ الحديث : «ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عزوجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالودّ والرحمة ، وكان الله إليه بكل خير أسرع» (٣). نقله فى الترغيب. وفى حديث آخر : «يعطى المؤمن ودّا فى صدور الأبرار ، ومهابة فى صدور الفجار». فتودّد الناس للعبد دليل على قبوله عند مولاه. أنتم شهداء الله فى أرضه. وفى بعض الأثر : «لا يموت العبد الصالح حتى يملأ مسامعه مما يحب ، ولا يموت الفاجر حتى يملأ مسامعه مما يكره». بالمعنى.
وأتى الحق جل لجلاله بالسين ؛ لأن السورة مكية ، وكانوا إذ ذلك ممقوتين عند الكفرة ، فوعدهم ذلك ، ثم أنجزه لهم حين جاء الإسلام ، فعزوا وانتصروا ، وتعشقت إليهم قلوب الخلق من كل جانب ، كما هو مسطر فى تواريخهم. وقيل : الموعود فى القيامة ، حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد كأنها أنوار الشمس الضاحية (٤) ، ولعل إفراد هذا بالوعد من بين مالهم من الكرامات السنية ؛ لأن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تقاطع وتباغض وتضاد. والله تعالى أعلم.
__________________
(١) عزاه فى المنثور (٤ / ٥١٢) لابن مردويه والديلمي ، عن البراء.
(٢) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق ، باب : ذكر الملائكة) ، ومسلم فى (البر والصلة ، باب إذا أحب الله عبدا) من حديث أبى هريرة.
(٣) أخرجه الطبراني فى الأوسط (٥ / ١٨٦ ح ٥٠٢٥) بزيادة فى أوله ، من حديث أبى الدرداء ، وقال الهيثمي فى المجمع : (١٠ / ٢٤٧) : رواه الطبراني فى الكبير والأوسط. وفيه محمد بن سعيد بن حسان المصلوب ، وهو كذاب.
(٤) التعبير بالاستقبال بالنسبة إلى الله تحقيق ، كالماضى ، والحاضر ، فليس عند الله زمن كما هو عندنا. والأحسن فى تأويل الآية أن نجعل السين حرف توكيد. والله أعلم.