(تَنْزِيلاً) أي : أنزل تنزيلا ، أو حال كون القرآن تنزيلا ، أي : منزلا (مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) ، ونسبة التنزيل إلى الموصول بعد نسبته إلى نون العظمة بقوله : (ما أَنْزَلْنا) ؛ لبيان فخامته تعالى بحسب الأفعال والصفات ، إثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام ، ثم التفسير لزيادة تحقيق وتقرير. وتخصيص خلقهما بالذكر ؛ لتضادهما. وتقديم الأرض لكونه أقرب إلى الحس ، ووصف السموات بالعلى ، وهو جمع «عليا» ؛ لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل. وكل ذلك إلى قوله : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) ، مسوق لتعظيم المنزل ـ عزوجل ـ المستتبع بتعظيم المنزّل عليه ، الداعي إلى تربية المهابة وإدخال الروعة ، المؤدية إلى استنزال المتمردين عن رتبة العتو والطغيان ، واستمالتهم إلى الخشية ، المفضية إلى التذكير والإيمان.
ثم قال تعالى : (الرَّحْمنُ) أي : هو الرحمن ، ووصف تعالى بالرحمانية إثر وصفه بالخالقية ؛ للإيذان بأن ربوبيته تعالى ، وقيامه بالأشياء ، من طريق الرحمة والإحسان ، لا بالإيجاب ، وفيه إشارة إلى أن تنزيله القرآن أيضا من رحمته ـ تعالى ـ ، كما ينبئ عنه قوله عز من قائل : (الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (١). أو : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) : مبتدأ وخبر ، وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذي من شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند المخاطب ؛ للإيذان بأن ذلك أمر بيّن لا خفاء فيه ، غنى عن الإخبار صريحا. والاستواء على العرش مجاز عن الملك والسلطان ، يقال : استوى فلان على سرير الملك ؛ مرادا به ملك الملك والتصرف ، وإن لم يقعد على سرير أصلا ، والمراد : تعلق قدرته وقهريته فى جميع الكائنات بالتدبير والتصرف التام.
وسئل أحمد بن حنبل عن الاستواء ، فقال : استواء من غلب وقهر ، لا استواء كما يتوهم البشر. وسئل عنه مالك والشافعي ـ رضى الله عنهما ـ فقالا : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عن هذا بدعة وضلالة ، آمنوا بلا تشبيه ، وصدّقوا بلا تمثيل ، وأمسكوا عن الخوض فى هذا كل الإمساك.
وقال الجنيد رضي الله عنه : خلق الله العرش فوق سبع سموات ، وجعله قبلة لدعاء المخلوقات ، وقابله بقلب عبده المؤمن ، ليكون محلا للتجليات والتنزلات والمخاطبات. ه. وقد تقدم الكلام عليها فى الأعراف مستوفيا (٢).
(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما ، (وَما بَيْنَهُما) من الموجودات الكائنة فى الجو دائما ، كالهواء والسحاب ، أو أكثريا ؛ كالطير ، أي : له ذلك وحده دون غيره ، لا شركة ولا استقلالا ، كل ما ذكر هو له ؛ ملكا وتصرفا ، وإحياء وإماتة ، وإيجادا واعداما ، (وَما تَحْتَ الثَّرى) : وما وراء التراب المتصل بالهوى السفلى. وعن محمد بن كعب : أنه ما تحت الأرضين السبع. وعن السدى : أن
__________________
(١) الآيتان : ١ ـ ٢ من سورة الرحمن.
(٢) راجع تفسير الآية ٥٤ من سورة الأعراف.