(قالَ) تعالى : (خُذْها) يا موسى ، (وَلا تَخَفْ) ، قال ابن عباس رضي الله عنه : انقلبت ثعبانا ذكرا ، يبتلع كل شىء من الصخر والشجر ، فلما رآه كذلك خاف ونفر ، ولحقه ما يلحق البشر عند مشاهدة الأهوال من الخوف والفزع ، إذ لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية. (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) أي : سنعيدها ، بعد الأخذ ، إلى حالتها الأولى التي كانت عليها عصا ، قيل : بلغ عليهالسلام عند ذلك من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده فى فمها ، ويأخذ بلحييها. فلما أخذها عادت عصا ، وحكمة قلبها وأخذها هنا ؛ ليكون معها على ثقة عند مخاصمة فرعون ، وطمأنينة من أمره ، فلا يعتريه شائبة دهش ولا تزلزل. والسيرة : فعلة من السير ، يجوز بها إلى الطريقة والهيئة ، وانتصابها على نزع الخافض.
ثم أراه معجزة أخرى ، فقال : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) أي : أدخلها تحت عضدك ، فجناح الإنسان : جنباه ، مستعار من جناح الطير ، (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) : جواب الأمر ، أي : إن أدخلتها تخرج بيضاء شعاعية ، (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي : حال كونها كائنة من غير عيب بها ؛ كبرص ونحوه. روى أنه عليهالسلام كان آدم اللون ، فأخرج يده من مدرعته بيضاء ، لها شعاع كشعاع الشمس ، تضىء حال كونها (آيَةً أُخْرى) أي : معجزة أخرى غير العصا ، (لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى) أي : فعلنا ما فعلنا ، لنريك بعض آياتنا العظمى ، أو : لنريك الكبرى من آياتنا. قال ابن عباس : «كانت يد موسى أكبر آياته». والله تعالى أعلم.
الإشارة : يقال للفقير : وما تلك بيمينك أيها الفقير؟ فيقول : هى دنياى أعتمد عليها فى معاشى وقيام أمورى ، وأنفق منها على عيالى ، ولى فيها حوائج أخرى ؛ من الزينة والتصدق وفعل الخير ، فيقال له : ألقها من يدك أيها الفقير ، واخرج عنها ، أو أخرجها من قلبك إن تيسر ذلك مع الغيبة عنها ، فألقاها وخرج عنها ، فيلقيها ، فإذا هى حية كانت تلدغه وتسعى فى هلاكه وهو لا يشعر. فلما تمكن من اليقين ، وحصل على غاية التمكين ، قيل له : خذها ولا تخف منها ، حيث رفضت الأسباب ، وعرفت مسبب الأسباب ، فاستوى عندك وجودها وعدمها ، ومنعها وإعطاؤها ، سنعيدها سيرتها الأولى ، تأخذ منها مأربك ، وتخدمك ولا تخدمها. يقول الله تعالى : «يا دنياى ، اخدمي من خدمنى ، وأتبعى من خدمك» (١).
وأما قوله تعالى فى حديث آخر مرفوعا : «تمررى على أوليائى ولا تحلو لهم فتفتنهم عنى» (٢) فالمراد بالمرارة : ما يصيبهم من الأهوال والأمراض وتعب الأسفار ، وإيذاء الفجار وغير ذلك. وقد يلحقهم الفقر الظاهر شرفا لهم ، لقوله صلىاللهعليهوسلم : «الفقر فخرى وبه أفتخر» (٣) ، أو كما قال عليهالسلام إن صح. وقال شيخنا البوزيدى رضي الله عنه :
__________________
(١) أخرجه الخطيب البغدادي فى تاريخه (٨ / ٤٤) عن ابن مسعود مرفوعا. وقال الشوكانى فى الفوائد (ص / ٢٣٨) : «وفى إسناده الحسن بن داود والحديث موضوع». والحديث فى الإتحاف السنية (٢٥٧) للديلمى مختصرا.
(٢) أخرجه البيهقي فى الشعب (ح ٩٨٠٠) بنحوه ومطولا عن قتادة بن النعمان ، وقال البيهقي : لم نكتبه إلا بهذا الإسناد ، وفيه مجاهيل. والحديث فى الاتحافات (٢٥٨) للديلمى.
(٣) قال القاري فى الأسرار المرفوعة (ص ٢٥٥ ، ح ٣٢٠) «قال الحافظ ابن حجر : «موضوع لا أصل له».