وليس المراد بالساحل نفس الشاطئ ، بل ما يقابل الوسط ، وهو ما يلى الساحل من البحر ، حيث يجرى ماؤه إلى نهر فرعون ، لما روى أنها جعلت فى التابوت قطنا محلوجا ، ووضعته فيه ، ثم قيّرته (١) وألقته فى اليم. وقيل : كان التابوت من البردي ، صنعته أمه. وقال مقاتل : صنعه لها رجل مؤمن اسمه «حزقيل» ، ثم طلته بالقار ـ أي : الزفت ـ وألقته فى اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير ، فدفعه الماء إليه ، فأتى به إلى بركة فى البستان ، وكان فرعون جالسا ثمّ مع آسية بنت مزاحم ، فأمر به فأخرج ، فإذا فيه صبى أصبح الناس وجها ، فأحبه فرعون حبا شديدا لا يكاد يتمالك الصبر عنه ، وذلك قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) ، قال ابن عباس : «أحبه وحبّبه إلى خلقه». وقال قتادة : «ملاحة كانت فى عينى موسى ، ما رآه أحد إلّا عشقه» ، أي : وألقيت عليك محبة عظيمة كائنة منى ، قد زرعت فى القلوب ، بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك ، ولذلك أحبك عدو الله وأهله ، وذلك ليتعطف عليك.
(وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي : ولتربّى بالحنو والشفقة ، وتغذى بمرأى منى ، مصحوبا برعايتى وحفظى ، فى أحسن تربية ونشأة. وكان ابتداء ذلك : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) تتبع تابوتك ، فلما أخرجت التمسوا لك المراضع ، (فَتَقُولُ) لفرعون وآسية ، حين رأتهما يطلبان له مرضعة يقبل ثديها ، وكان لا يقبل ثديا. وصيغة المضارع فى الفعلين ؛ لحكاية الحال الماضية ، والأصل : إذ مشت فقالت : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ)؟ يضمه إلى نفسه ويربيه ، وذلك إنما يكون بقبول ثديها. روى أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاما فى النيل لا يرتضى ثدى امرأة ، واضطروا إلى تتبع النساء ، فخرجت أخته مريم لتتعرف خبره ، فجاءت متنكرة ، فقالت ما قالت ، وقالوا : نعم ، فجاءت بأمه فقبل ثديها.
قال تعالى : (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ) ؛ وفاء بعهدنا ، (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بلقائك ، (وَلا تَحْزَنَ) أي : ولا يطرأ عليها حزن بفراقك بعد ذلك ، (وَقَتَلْتَ) بعد ذلك (نَفْساً) ، وهى نفس القبطي الذي استغاثه الإسرائيلى عليه. قال كعب : كان إذ ذاك ابن ثنتى عشرة سنة ، (فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ) أي : غم قتله ، خوفا من عقاب الله تعالى بالمغفرة ، ومن اقتصاص فرعون ، بوحينا إليك بالمهاجرة ، (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي : ابتليناك ابتلاء عظيما ، وخلصناك مرة بعد أخرى ، حتى صلحت للنبوة والرسالة ، وهو تحمل ما ناله فى سفره من الهجرة عن الوطن ، ومفارقة الأحباب ، والمشي راجلا ، وفقد الزاد ، بعد ما خلصه من الذبح ، ثم من البحر ، ثم من القصاص بالقتل. وسئل عنها ابن عباس ، فقال : خلّصناك من محنة بعد محنة ، ولد فى عام كان يقتل فيه الغلمان ، فهذه فتنة ، وألقته
__________________
(١) أي : دهنته بالقار.