قال ابن عباس رضي الله عنه : (خسر من أشرك بالله ولم يتب) ، فإنما تذل وجوه من أشرك بالله ، وأما أهل التوحيد فأشار إليهم بقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ ...) إلخ ، فهو قسيم لقوله : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) ، لا لقوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ).
وإذا حملنا (عَنَتِ) على مطلق الخضوع أو السجود كان عاما ؛ لأن الخلائق كلها تخضع لله فى ذلك الوقت. ثم فصلهم : فمن حمل ظلما فقد خاب وخسر ، (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) أي : بعضها ، (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) ، فالإيمان شرط فى صحة الطاعات وقبول الحسنات ، (فَلا يَخافُ ظُلْماً) أي : منع ثواب قد استحقه بموجب الوعد ، أو زيادة عقاب على موجب سيئاته ، (وَلا هَضْماً) أي : كسرا ونقصا من ثواب حسناته ، وأصل الهضم : النقص والكسر ؛ يقال : هضمت لك من حقك ، أي : حططت ، وهضمت الطعام : حططته إلى أسفل المعدة ، وامرأة هضيمة الكشح : أي : ضامرة البطن ، فالحق تعالى إنما تعرض لنفى الظلم والهضم عن عامل الصالحات ؛ لأن نفى ذلك إنما يكون مع العمل ، ففيه يتوهم الهضم والنقص ، وأما بدونه فلا .. نعم ، الإيمان المجرد نافع على مذهب أهل السنة ، لكن صاحبه على خطر فى نفوذ الوعيد ، ولو غفر له ، فإنه ناقص عن درجة عامل الصالحات ، كما علم شرعا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : إذا سرحت الفكرة وجالت فى أقطار الملكوت وأسرار الجبروت ، وتحققت بعدم الإحاطة ، رجعت إلى عش العبودية ، وخضعت للحى القيوم ، وقد خاب وخسر من لم يبلغ إلى هذا المقام ، حين حمل ظلما بالميل إلى الشيء من السّوى ، بغلبة الطبع والهوى ، وأما من نهض إلى مولاه ، واشتغل بالأعمال التي تقربه إلى حضرته ، فلا يخاف ظلما ولا هضما ؛ فإن الله يرفع العبد على قدر همته ، وينعمه على قدر طاعته. وبهذا جاء الوحى والتنزيل ، كما قال تعالى :
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤))
قلت : (وَكَذلِكَ) : عطف على قوله : (كَذلِكَ نَقُصُّ) ، و «ذلك» : إشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد ، المنبئة عما سيقع من أهوال يوم القيامة.