قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) أي : فى دخول الحضرة ، (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) فى التربية والترقية ، (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) ، وهو ذكر الله ، يأمر به من أراد شفاعته فيه ، حتى تستولى عليه أنوار الذكر ، فيدخل مع الأحباب ، ويجلس على بساط الاقتراب ، فحيئذ يحصل له العلم بالله ، على نعت الذوق والوجدان ، وشهود العيان ، لا على نعت الدليل والبرهان.
وقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) إشارة إلى عدم الإحاطة بكنه الربوبية لمن دخل الحضرة ، فلو حصل لهم الإحاطة بالكنه لم يبق ترقّ ، وكيف؟ وهم يترقون فى أسرار الذات وأنوار الصفات دائما سرمدا ، فى هذه الدار وفى تلك الدار! ، ففى كل ساعة يتجدد لهم من لذيذ المشاهدات وأنوار المكاشفات ، ما تعجز عنه العقول ، وتكلّ عنه طروس النقول. نعم يحصل لهم العلم الضروري بالذات العلية ، ويشاهدون ما تجلى من أسرارها وأنوارها ، وتسرح فكرتهم فى بحر الأولية والآخرية ، والظاهرية والباطنية ، والعظمة الفوقية وما تحت الثرى ، ويخوضون فى بحار الأحدية ، ويتفكرون فى قاموس كنه الربوبية ، فلا خوف ولا ملل ، من غير إحاطة ، كما تقدم. والله تعالى أعلم.
فإذا رجعوا إلى مشاهدة الرسوم خضعت وجوههم للحى القيوم ، كما قال تعالى :
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢))
قلت : (وَقَدْ خابَ ..) إلخ : استئناف ، تعليل ما لأجله عنت وجوههم ، أو اعتراض ، كأنه قيل : خابوا وخسروا ، أو حال من الوجوه ، و (مَنْ) : عبارة عنها ، مغنية عن ضميرها ، أي : خضعت الوجوه ، والحال أنها خابت حين حملت ظلما. وقيل : (الْوُجُوهُ) على العموم ، فالمعنى حينئذ : وقد خاب من حمل منهم ظلما ، ومن قرأ : «فلا يخف» : فعلى النهى ، وهو جواب ، ومن قرأ بالرفع : فعلى الخبر ، أي : فهو لا يخاف.
يقول الحق جل جلاله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) أي : ذلت وخضعت خضوع العناة ، أي : الأسارى فى يد الملك القهار ، ومنه قيل للأسير : «عان» ، أي : خاضع ذليل ، وفى ذلك يقول أمية بن أبى الصلت :
مليك على عرش السّماء مهيمن |
|
لعزّته تعنو الوجوه وتسجد |
ولعلها وجوه المجرمين ، كقوله تعالى : (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) ، ويؤيده وصله بقوله : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) أي : وعنت الوجوه ؛ لأنها قد خابت وخسرت حين حملت ظلما.
__________________
(١) من الآية ٢٧ من سورة الملك.