(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : ما تقدمهم من الأحوال ، أو من أمر الدنيا ، (وَما خَلْفَهُمْ) : وما بعدهم مما يستقبلونه ، أو من أمر الآخرة ، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) أي : لا تحيط علومهم بذاته المقدسة ، بحيث يدركون كنه الربوبية ، أو : لا تحيط علومهم بمعلوماته تعالى. قال القشيري : الكناية (١) فى قوله : (بِهِ) ، يحتمل أن تعود إلى (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ، ويحتمل أن تعود إلى الحقّ ـ سبحانه ـ وهو طريقة السّلف ، يقولون : يعلم الحق ولا يحيط به العلم ، كما قالوا : إنه يرى ولا يدرك. ه.
الإشارة : وقد آتيناك من لدنّا ذكرا ، أي : قرآنا يجمع القلوب على الله ، ويدل على مشاهدة الله. من أعرض عنه ـ أي : عن الله ـ ولم يتوجه إليه بكليته ، فإنه يحمل وزرا ، يثقله عن الترقي إلى مقام العارفين ، فيبقى مخلدا فى حضيض الغافلين ، وذلك فى يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، فيكرم المتقين ، ويهين المجرمين ، حيث يزول عنهم ما كانوا فيه من الدعة والسعة ، كأنهم ما لبثوا فيه غير ساعة.
ويسألونك ، أيها العارف ، عن جبال العقل ، حين تطلع على نور قمره شمس العرفان ، فقل ينسفها ربى نسفا ، فيذر أرض النفس ، حين استولت عليها أسرار المعاني ، قاعا صفصفا ، لاتصالها بفضاء المعاني ، حين ذهبت أغيار الأوانى ، لا ترى فيها انخفاضا ولا ارتفاعا. وإنما ترى وجودا متصلا ، وبحرا طامسا ، ليس فيه بعد ولا قرب ، ولا علو ولا سفل ، وفى ذلك يقول الشاعر :
من أبصر الخلق كالسراب |
|
فقد ترقى عن الحجاب |
إلى وجود تراه رتقا |
|
بلا ابتعاد ولا اقتراب |
ولم يشاهد به سواه |
|
هناك يهدى إلى الصواب |
فلا خطاب به إليه |
|
ولا مشير إلى الخطاب |
والمراد بالخلق : جميع الكائنات ، فلا خطاب من العبد إلى ربه ، لمحو العبد من شدة القرب ، ولم تبق له إشارة ولا عبارة. وفى الحكم : «ما العارف من إذا أشار وجد الحق أقرب إليه من إشارته ، بل العارف من لا إشارة له ؛ لفنائه فى وجوده ، وانطوائه فى شهوده». وقالوا : من عرف الله كلّ لسانه ، وإليه الإشارة بقوله : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً). وهذا بعد اتباع الداعي إلى الله وصحبته ، من غير عوج عنه ، ولا خروج عن رأيه ، حتى يقول له : ها أنت وربك. فحيئذ تحصل الهيبة والتعظيم ، فلا يقدر أحد أن يرفع صوته ، وهو فى حضرة الملك الكريم ، وهذا شأن الصوفية ، كلامهم كله تخافت وتسارر ؛ لغلبة الهيبة عليهم.
__________________
(١) أي : الضمير.