صَفْصَفاً) أي : أرضا مستوية ؛ لأن الجبال إذا سويت ، وجعل سطحها مساويا لسائر أجزاء الأرض ، فقد جعل الكل سطحا واحدا. فالضمير فى (فَيَذَرُها) إما للجبال ، باعتبار أجزائها السافلة ، الباقية بعد النسف ، وهى مقارها ومراكزها ، وإما للأرض ، المدلول عليها بقرينة الحال ؛ لأنها الباقية بعد نسف الجبال.
والقاع والقيعة : ما استوى من الأرض وصلب ، وقيل : السهل ، وقيل : ما لا نبات فيه. والصفصف : الأرض المستوية الملساء ، فإن أجزاءها صف واحد من كل جهة ، (لا تَرى فِيها) أي : فى الأرض الذي نسفت جبالها (عِوَجاً) أي : اعوجاجا وانخفاضا ، (وَلا أَمْتاً) ؛ نتوءا وارتفاعا. قال ابن عباس : العوج : الأودية ، والأمت : الروابي. وقال مجاهد : العوج : الانخفاض ، والأمت : الارتفاع ؛ والمعنى : أنك ، إن تأملت بالمقاييس الهندسية ، وجدتها مستوية الجهات. والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية.
(يَوْمَئِذٍ) أي : يوم إذ نسفت الجبال ، (يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ) أي : يتبع الناس داعى الله تعالى إلى المحشر ، وهو إسرافيل عليهالسلام ، يدعو الناس بعد النفخة الثانية ، قائما على صخرة بيت المقدس : أيها الناس هلموا إلى ربكم ، بعد أن يدعوهم إلى الخروج من قبورهم ، قائلا : أيتها العظام النخرة ، والأوصال المتمزقة ، واللحوم المتفرقة ؛ قوموا إلى العرض والحساب ، فيقبلون من كل جانب منتشرين ، كأنهم جراد منتشر ، لا يدرون أين يذهبون ، فينادى حينئذ من الصخرة للجمع للحساب. هذا ما تدل عليه الأحاديث والأخبار.
وقوله تعالى : (لا عِوَجَ لَهُ) أي : لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه ، فلا يزيغ عنه ، بل كلهم يقصدون صوته ، من مشارق الأرض ومغاربها وجوانبها. والتقدير : لا عوج للصوت عن أحد ، بل يصل إليه أينما كان ، ويتوجه إليه حيث كان ، (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) أي : خضعت وسكنت لهيبته (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أي : صوتا خفيا. والهمس : صوت وطء الأقدام فى نقلها إلى المحشر ، أي : انقطعت أصوات اللسان ، فلا تسمع إلا همس الأقدام فى مشيها إلى المحشر ، من شدة الهيبة والخوف.
(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) أي : يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة لا تنفع شفاعة أحد ، (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) فى الشفاعة ، كالأنبياء والأولياء والعلماء الأتقياء ، (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي : ورضى قوله فى المشفوع له بحيث يقبل شفاعته. وقيل : (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) فى الدنيا ، وهو : لا إله إلا الله ، مخلصا من قلبه .. أو : إلا من أذن له الرحمن أن يشفع فيه ، ورضى لأجله قولا من الشافع. وهذا أليق بمقام التهويل. وأما من عداه فلا تنفع ، وإن وقعت ؛ لقوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (١).
__________________
(١) الآية ٤٨ من سورة المدثر.